فصل: سَلَب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


سَلَب

التّعريف

1 - السّلب ما يأخذه أحد القِرْنين في الحرب من قِرْنه، ممّا يكون عليه ومعه من ثياب وسلاح ودابّة، وهو بمعنى مفعول أي‏:‏ مسلوب‏.‏ ويقال أخذ سلب القتيل وأسلاب القتلى‏.‏ والمصدر السّلب ومعناه‏:‏ الانتزاع قهراً‏.‏ ولا يخرج معناه الاصطلاحيّ عن معناه اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الرّضخ‏:‏

2 - الرّضخ لغةً‏:‏ هو العطاء القليل‏.‏ ويقال رضخت له رضخاً أي‏:‏ أعطيته شيئاً ليس بالكثير‏.‏

وشرعاً‏:‏ هو مال يعطيه الإمام من الخمس، كالنّفل متروك قدره لاجتهاده‏.‏

وعرّفه بعضهم بأنّه شيء دون سهم الرّاجل، يجتهد الإمام في قدره، وهو من الأرباع الخمسة، وقيل من خمس الخمس‏.‏

ب - الغنيمة‏:‏

3 - الغنيمة‏:‏ فعيلة بمعنى مفعولة من الغنم، وهو لغةً‏:‏ الرّبح والفضل، وسمّيت بذلك لأنّها فائدة محضة‏.‏

وشرعاً‏:‏ مال حصل لنا من كفّار أصليّين حربيّين بقتال منّا، وما ألحق به من إيجاف خيل ونحوه‏.‏ - زاد - بعض العلماء - على وجه يكون فيه إعلاء كلمة اللّه، ويدخل فيه السّلب والرّضخ والنّفل‏.‏

ج - الأنفال‏:‏

4 - الأنفال‏:‏ هي أموال الحربيّين الّتي آلت إلى المسلمين بقتال، كالغنيمة أو بغير قتال كالفيء، وتطلق على الزّيادة على السّهم لمصلحة، وهو ما يجعل لمن عمل عملاً زائداً في الحرب ذا أثر ونفع‏.‏

الحكم التّكليفيّ

5 - ذهب جمهور الفقهاء وهم‏:‏ الشّافعيّة، والحنابلة، والأوزاعيّ، واللّيث، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، إلى أنّ المسلم إذا قتل أحداً من المشركين في المعركة مقبلاً على القتال فله سلبه‏.‏ قال ذلك الإمام أو لم يقل لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قتل كافراً فله سلبه»‏.‏ ولقول عبد اللّه بن جحش‏:‏ ‏"‏ اللّهمّ ارزقني رجلاً شديداً إلى أن قال‏:‏ حتّى أقتله وآخذ سلبه ‏"‏‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ القاتل لا يستحقّ السّلب، إلاّ إذا اشترط له الإمام ذلك‏.‏

كأن يقول‏:‏ - قبل إحراز الغنيمة، وقبل أن تضع الحرب أوزارها‏:‏ «من قتل قتيلاً فله سلبه»‏.‏ وإلاّ كان السّلب من جملة الغنيمة بين الغانمين‏.‏

وقال الطّحاويّ من الحنفيّة‏:‏ أمر السّلب موكول للإمام، فيرى فيه رأيه، لما روى عوف بن مالك - رضي الله عنه - «أنّ مدديّاً اتّبعهم فقتل علجاً، فأخذ خالد بعض سلبه، وأعطاه بعضه فذكر ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ لا تردّه عليه يا خالد» ولما ورد

«في قصّة قتل أبي جهل، حيث أعطى سلبه لمعاذ ابن عفراء مع قوله‏:‏ كلاكما قتله»‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ وهو رواية عن أحمد، اختارها أبو بكر من الحنابلة، إنّ القاتل لا يستحقّ السّلب إلاّ أن يقول له الإمام ذلك، ولا يجوز أن يقول الإمام ذلك، إلاّ بعد انقضاء الحرب، حتّى لا يشوّش نيّته، ولا يصرفها لقتال الدّنيا، لأنّ السّلب عندهم من جملة النّفل فيعطيه الإمام للمصلحة حسب اجتهاده‏.‏ واستدلّوا بحديث عوف بن مالك المتقدّم‏.‏

كما روي عن شبّر بن علقمة قال‏:‏ بارزت رجلاً يوم القادسيّة فقتلته، وأخذت سلبه، فأتيت به سعداً، فخطب سعد أصحابه وقال‏:‏ إنّ هذا سلب شبّر خير من اثني عشر ألفاً، وإنّا قد نفّلناه إيّاه‏.‏

من يستحقّ السّلب‏؟‏

6 - اختلف الفقهاء فيمن يستحقّ السّلب من المقاتلين، فذهب الجمهور، وهم‏:‏ الحنفيّة، والشّافعيّة في الرّاجح عندهم، والحنابلة إلى أنّ السّلب لكلّ قاتل يستحقّ السّهم أو الرّضخ كالعبد، والمرأة، والصّبيّ، والتّاجر، والذّمّيّ، لعموم الحديث‏:‏ «من قتل قتيلاً له عليه بيّنة فله سلبه» ولما رواه عوف بن مالك رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بالسّلب للقاتل»‏.‏ وهو حكم مطلق غير مقيّد بشيء من الأشياء‏.‏

إلاّ أنّ الشّافعيّة يستثنون الذّمّيّ فيرون‏:‏ أنّه لا يستحقّ السّلب وإن حضر القتال بإذن الإمام، أمّا إذا حضر بغير إذن الإمام فلا يستحقّ السّلب باتّفاق‏.‏

ويرى المالكيّة أنّ المرأة والذّمّيّ والصّبيّ، وكلّ من لا يسهم له لا يستحقّ السّلب‏.‏ هذا القول المرجوح عند الشّافعيّة‏.‏

قال المالكيّة‏:‏ إلاّ إذا أجاز الإمام لهم، أو تعيّن عليهم الجهاد بدخول الكفّار إلى بلاد المسلمين أو نحو ذلك فيأخذون السّلب عند ذلك‏.‏

أمّا الّذي لا يستحقّ سهماً ولا رضخاً كالمرجف والمخذل والخائن والمعين على المسلمين ونحوه فلا يستحقّ السّلب باتّفاق الفقهاء‏.‏

7 - ومن شروط استحقاق السّلب أن يغرّر القاتل بنفسه في قتل الكافر،أي‏:‏ يخاطر بحياته، ويواجه احتمال الموت، فإن رماه بسهم أو نحوه من صفّ المسلمين أو من حصن يتحصّن فيه فلا سلب له‏.‏

وإن اشترك اثنان أو أكثر من المسلمين في قتل الكافر حال الحرب، فالسّلب لهم جميعاً عند الشّافعيّة وأبي يعلى من الحنابلة، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قتل قتيلاً فله سلبه» حيث يتناول الواحد والاثنين والجماعة، ولأنّهم اشتركوا في السّبب - وهو القتل - فيجب أن يشتركوا في السّلب‏.‏

وذهب الحنابلة - وهو وجه عند الشّافعيّة إلى أنّه لو وقع بين جماعة لا يرجى نجاته منهم لم يختصّ قاتله بسلبه لأنّه لم يغرّر بنفسه، ولأنّ شرّ الكافر زال بالوقوع بينهم‏.‏

وأضاف الحنابلة أنّه لو حمل جماعة من المسلمين على واحد من الكافرين، فقتلوه فسلبه ليس لهم‏.‏ بل يكون غنيمةً، لأنّهم لم يغرّروا بأنفسهم في قتله، وكذا لو اشترك في قتله اثنان أو أكثر، ولم يكن أحدهما أبلغ في قتله من الآخر، لأنّ السّلب إنّما يستحقّ بالمخاطرة في قتله، ولا يحصل ذلك بقتل الاثنين فأكثر فلم يستحقّ به السّلب‏.‏ قالوا‏:‏ ولأنّه لم يبلغنا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أشرك بين اثنين في سلب، ولأنّ «أبا جهل ضربه معاذ ابن عمرو بن الجموح - رضي الله عنه - ومعاذ ابن عفراء - رضي الله عنه - وأتيا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال‏:‏ كلاكما قتله وقضى بسلبه لمعاذ بن الجموح»‏.‏

8 - وقد أجمع الفقهاء على أنّ المقتول الّذي يأخذ قاتله سلبه يشترط أن يكون من المقاتلين الّذين يجوز قتلهم شرعاً، أمّا إذا قتل امرأةً أو صبيّاً أو شيخاً فانياً أو مجنوناً أو راهباً منعزلاً في صومعته أو نحوهم ممّن ورد النّهي عن قتلهم، فلا يستحقّ قاتله السّلب ما لم يشترك في القتال‏.‏

فإن اشترك أحد من هؤلاء في القتال استحقّ قاتله سلبه، لجواز قتله حينئذ‏.‏

9 - ومن شروط استحقاق السّلب‏:‏ أن يقتله، أو يثخنه بجراح تجعله في حكم المقتول، بحيث يكون قد كفى المسلمين شرّه وأزال امتناعه كلّيّاً‏:‏ كأن يفقأ عينيه أو يعمي بصره أو يقطع يديه ورجليه‏.‏

قال الشّافعيّة في الأظهر‏:‏ وكذا لو قطع يديه أو رجليه أو أسره أو قطع يداً ورجلاً لضعف حركته في القطع، ولأنّ الأسر أبلغ في القهر وأصعب من القتل، ولأنّ الإمام يتخيّر في الأسير بين القتل والمنّ والفداء ونحوها‏.‏

قال مكحول‏:‏ لا يكون السّلب إلاّ لمن أسر علجاً أو قتله، وقال القاضي أبو يعلى‏:‏ من الحنابلة‏:‏ إذا أسر رجلاً فقتله الإمام صبراً فسلبه لمن أسره، وإن استبقاه الإمام كان له فداؤه أو رقبته وسلبه لأنّه كفى المسلمين شرّه‏.‏ وإلى هذا ذهب الشّافعيّة في قول‏.‏

وذهب بعض العلماء ومن بينهم السّبكيّ‏:‏ إلى أنّه لا يستحقّ السّلب إلاّ القاتل لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قتل قتيلاً فله سلبه» ولأنّ غير القتل لا يزيل الامتناع فربّ أعمى شرّ من البصير، مقطوع اليدين والرّجلين يحتال على الأخذ بثأر نفسه‏.‏

وذهب الحنابلة‏:‏ إلى أنّ القاطع للرّجلين أو اليدين أو اليد والرّجل لا يستحقّ السّلب لأنّه لم يكفّ شرّه عن المسلمين‏.‏

وكذا إن أسره، لأنّ الّذي أسره لم يقتله سواء قتله الإمام أو استبقاه برقّ أو فداء أو منّ ويكون سلبه وفداؤه إن فدي، ورقّه إن رقّ غنيمةً بين المسلمين، لأنّ «المسلمين أسروا أسرى بدر، فقتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم منهم عقبة بن أبي معيط والنّضر بن الحارث، واستبقى سائرهم‏.‏ فلم يعط مَنْ أسرهم أسلابهم ولا فداءهم، بل كان فداؤهم غنيمةً للمسلمين»‏.‏ وإلى هذا ذهب الشّافعيّة في مقابل الأظهر‏.‏

وإن عانق رجلاً فقتله آخر فسلبه للقاتل عند الشّافعيّة والحنابلة، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قتل قتيلاً فله سلبه» ولأنّه كفى المسلمين شرّاً، فأشبه ما لو لم يعانقه الآخر‏.‏ وذهب الأوزاعيّ‏:‏ إلى أنّ سلبه للمعانق ومثله لو كان الكافر مقبلاً على رجل يقاتله فجاء آخر من ورائه، فضربه فقتله فسلبه لقاتله‏.‏

لحديث أبي قتادة رضي الله عنه قال‏:‏ «خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلمّا التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فاستدرت إليه حتّى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه ضربةً، وأقبل عليّ فضمّني ضمّةً وجدت منها رائحة الموت، ثمّ أدركه الموت‏.‏‏.‏‏.‏ ثمّ إنّ النّاس رجعوا وجلس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ من قتل قتيلاً له عليه بيّنة فله سلبه قال‏:‏ فقمت فقلت‏:‏ من يشهد لي‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلى أن قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ مالك يا أبا قتادة‏؟‏ فاقتصصت عليه القصّة‏.‏ فقال رجل من القوم‏:‏ صدق يا رسول اللّه‏.‏ سلب ذلك القتيل عندي فأرضه من حقّه فقال أبو بكر الصّدّيق‏:‏ لاها اللّه إذاً لا يعمد إلى أسد من أسد اللّه تعالى يقاتل عن اللّه وعن رسوله فيعطيك سلبه فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ صدق فأعطه إيّاه قال‏:‏ فأعطانيه»‏.‏

قال أبو الفرج الزّاز من الشّافعيّة‏:‏ لو أمسكه واحد وقتله آخر فالسّلب بينهما لاندفاع شرّه بهما‏.‏ وهذا فيما إذا منعه الهرب، ولم يضبطه‏.‏ فأمّا الإمساك الضّابط فهو أسر وقتل الأسير لا يستحقّ به السّلب‏.‏

10 - ويشترط أيضاً في استحقاق السّلب‏:‏ أن يقتل الكافر وهو مقبل على القتال والحرب قائمة‏.‏ فإذا انهزم جيش المشركين واتّبعهم فقتل كافراً منهم فلا يستحقّ سلبه لأنّ بهزيمتهم اندفع شرّهم‏.‏ وكذلك لو قتل كافراً وهو أسير في يده، أو وهو نائم أو مشغول بأكل أو نحوه أو مثخن زائل الامتناع، لأنّ القاتل لم يغرّر بنفسه في قتله ولم تكفّ المسلمين شرّ المقتول‏.‏ ولأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعط ابن مسعود سلب أبي جهل لأنّه ذبحه بعد أن أثخنه معاذ بن الجموح وأمر بقتل عقبة بن أبي معيط والنّضر بن الحارث من أسارى بدر صبراً،ولم يعط سلبهما من قتلهما وقتل رجال بني قريظة صبراً فلم يعط من قتلهم سلابهم»‏.‏ وذهب أبو ثور وابن المنذر إلى أنّ السّلب يستحقّه كلّ من قتل كافراً لعموم حديث‏:‏ «من قتل قتيلاً فله سلبه» ولأنّ «سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قتل طليعةً للكفّار،وهو منهزم، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم من قتله‏؟‏ قالوا سلمة بن الأكوع قال‏:‏ له سلبه أجمع»‏.‏ أمّا إذا انهزم أحد من المشركين، فقتله مسلم، والحرب قائمة، فسلبه لقاتله لأنّ الحرب فرّ وكرّ، ولا فرق بين أن يقتله مقبلاً أو مدبراً ما دامت الحرب قائمةً فالشّرّ متوقّع والمولّي لا تؤمن كرّته‏.‏

وجمهور الفقهاء يرون أنّ القاتل في الصّفوف الملتحمة يستحقّ سلب من قتله لعموم خبر‏:‏ «من قتل قتيلاً فله سلبه» ولحديث أبي قتادة السّابق قال فيه، «فلمّا التقينا رأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين» الحديث، ولحديث أنس رضي الله عنه «أنّ أبا طلحة رضي الله عنه‏:‏ قتل يوم هوازن عشرين رجلاً، وأخذ أسلابهم، وكان ذلك بعد التقاء الزّحفين»، ولحديث «عوف بن مالك في قصّة المدديّ الّذي قتل رجلاً من الرّوم، حيث قال فيه‏:‏ فقضى لنا أنّا لقينا عدوّنا فقاتلونا قتالاً شديداً»‏.‏ الحديث ومع ذلك أخذ المدديّ سلب الرّجل الّذي قتله‏.‏

وذهب الأوزاعيّ ومسروق وسعيد بن عبد العزيز، وأبو بكر بن أبي مريم إلى أنّ السّلب للقاتل ما لم يلتق الزّحفان، ولم تمتدّ الصّفوف بعضها إلى بعض، فإذا كان كذلك فلا سلب لأحد، وهل يشترط إذن الإمام‏؟‏ قال أحمد والأوزاعيّ‏:‏ لا يعجبني أن يأخذ القاتل السّلب إلاّ بإذن الإمام، لأنّه فعل مجتهد فيه فلم ينفذ أمره فيه إلاّ بإذن الإمام بأخذ سهمه‏.‏

قال ابن قدامة ويحتمل أن يكون هذا من أحمد على سبيل الاستحباب، لا على سبيل الإيجاب، ليخرج من الخلاف‏.‏ فعلى هذا إن أخذه بغير إذن الإمام يكون قد ترك الفضيلة وله أخذه‏.‏ وقال الشّافعيّ وابن المنذر‏:‏ له أخذ السّلب بغير إذن الإمام، لأنّه استحقّه بجعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم له ذلك، ولا يؤمن إن أظهر عليه أن لا يعطيه‏.‏

هل تلزم البيّنة في استحقاق السّلب‏؟‏

11 – اختلف العلماء في ذلك، فذهب جمهور الفقهاء من الشّافعيّة والحنابلة وجماعة من المالكيّة إلى أنّه لا تقبل الدّعوى في استحقاق السّلب إلاّ بشهادة، لورود ذلك في بعض الرّوايات بلفظ‏:‏ «من قتل قتيلاً له عليه بيّنة فله سلبه»‏.‏

وقال مالك والأوزاعيّ‏:‏ يعطى السّلب إذا قال‏:‏ أنا قتلته ولا يسأل عن بيّنة، «لأنّ النّبيّ قبل قول أبي قتادة ومعاذ بن عمر بن الجموح وغيرهما وأعطاهم السّلب، من غير طلب شهادة، ولا حلف»‏.‏

ويرى بعض العلماء الّذين اشترطوا البيّنة أنّه لا تقبل إلاّ بشهادة رجلين، لأنّ الشّارع اعتبر البيّنة، وإطلاقها ينصرف إلى شاهدين‏.‏ ولأنّها كشهادة القتل العمد، ومن بين هؤلاء أحمد‏.‏ وذهب البعض الآخر إلى قبول شهادة رجل وامرأتين أو رجل ويمين، لأنّها دعوى في المال فيجب أن تكون كسائر الأموال‏.‏ إلى هذا ذهبت طائفة من أهل الحديث‏.‏

وذهب بعضهم إلى قبول شهادة شاهد واحد، «لأنّ النّبيّ قبل قول الّذي شهد لأبي قتادة من غير يمين»‏.‏

هل يخمّس السّلب‏؟‏

12 - اختلف الفقهاء في تخميس السّلب فذهب الشّافعيّة في المشهور عندهم والحنابلة وابن المنذر وابن جرير إلى أنّ السّلب لا يخمّس، لما رواه عوف بن مالك وخالد بن الوليد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قضى بالسّلب للقاتل ولم يخمّس السّلب»‏.‏ ولقول عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ إنّا كنّا لا نخمّس السّلب ‏"‏‏.‏

وذهب الأوزاعيّ ومكحول - وهو مقابل المشهور عند الشّافعيّة - إلى أنّ السّلب يخمّس لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ الآية‏.‏

وإلى هذا ذهب ابن عبّاس، وقال إسحاق‏:‏ إن استكثر الإمام السّلب خمّسه وذلك إليه لما رواه ابن سيرين رحمه الله‏:‏ أنّ البراء بن مالك رضي الله عنه بارز مرزبان الزّارة بالبحرين فطعنه فدقّ صلبه، وأخذ سواريه، وسلبه فلمّا صلّى الظّهر أتى أبا طلحة في داره فقال‏:‏ إنّا كنّا لا نخمّس السّلب، وإنّ سلب البراء قد بلغ مالاً، وأنا خامس، فكان أوّل سلب خمّس في الإسلام سلب البراء، وقد بلغ سلبه ثلاثين ألفاً‏.‏

وأمّا الحنفيّة والمالكيّة فيرون أنّ سلب المقتول كسائر الغنيمة، لا يختصّ به القاتل وأنّ القاتل وغيره فيه سواء، وينفّله الإمام‏.‏

ومحلّ التّنفيل عند الحنفيّة الأربعة الأخماس قبل الإحراز بدار الإسلام، ومن الخمس بعد الأحراز، وعند المالكيّة يكون من الخمس ينفّله الإمام للمقاتل إن رأى مصلحةً في ذلك‏.‏

السّلب الّذي يأخذه القاتل

13 - اتّفق الفقهاء على أنّ السّلب الّذي يستحقّه القاتل هو ما على القتيل من ثياب وعمامة وقلنسوة وخفّ وران وطيلسان، وكذا ما عليه من سلاح وآلات حرب كالدّرع والمغفر والرّمح والسّكّين، والسّيف واللّست والقوس والنّشّاب ونحوها، وما على دابّته من سرج ولجام، ومقود ونحوها‏.‏

واختلفوا فيما عدا ذلك فذهب الجمهور وهم الحنفيّة والشّافعيّة في الأظهر عندهم والحنابلة إلى أنّ من السّلب ما عليه من الشّرفيّة كالتّاج والسّوار والخاتم والطّوق والمنطقة ولو مذهّبةً ونحو ذلك، وكذا الهميان الّذي للنّفقة وما فيه من النّفقة، لأنّه يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قتل قتيلاً فله سلبه»، ولحديث البراء المتقدّم، وأنّه كان في السّلب سواره ومنطقته‏.‏ ومن السّلب الدّابّة الّتي يركبها، لما جاء في حديث «المدديّ أنّه قتل علجًا فحاز فرسه وسلاحه»‏.‏ وإلى هذا ذهب الأوزاعيّ ومكحول‏.‏

قال المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ وكذا الدّابّة الّتي يمسكها هو بيده أو بيد غلامه للقتال وخالفهم في هذا الحنفيّة والحنابلة، إذ قالوا‏:‏ إنّ الدّابّة الّتي يمسكها غلامه، أو ما تسمّى بالجنيبة، وهي الّتي تقاد معه، سواء أكانت أمامه أم خلفه أم بجنبه لا تدخل في السّلب‏.‏

وعن أحمد أنّ الدّابّة الّتي يركبها ليست من السّلب، وهو اختيار أبي بكر، لأنّ السّلب ما كان على بدنه، والدّابّة ليست كذلك، وأمّا الدّابّة الّتي في منزله، أو في خيمته، أو كانت منفلتةً فليست من السّلب باتّفاق‏.‏

وذهب المالكيّة وهو مقابل الأظهر لدى الشّافعيّة إلى أنّ التّاج والطّوق والسّوار والقرط الّذي في الأذن والخاتم والعين والصّليب والهميان وما فيه من النّفقة ليست من السّلب لأنّ هذه الأشياء ليست ممّا يستعان بها في الحرب‏.‏

واختلفوا أيضاً فيما يحمل معه من المال الموجود في حقيبته وخريطته ونحو ذلك‏.‏

فذهب الشّافعيّة في الرّاجح عندهم والحنابلة إلى أنّها ليست من السّلب لأنّها ليست من لباسه، ولا من حليّه ولا حلية فرسه‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّها من السّلب وإن كانت مملوءةً من الذّهب أو الفضّة وعليه ذهب السّبكيّ من الشّافعيّة لأنّه حملها لتوقّع الاحتياج إليها‏.‏

سُلْحفاة

انظر‏:‏ أطعمة‏.‏

سَلْخ

التّعريف

1 - السّلخ في اللّغة‏:‏ نزع جلد الحيوان‏.‏ يقال‏:‏ سلخ الإهاب عن الشّاة يسلخه، ويسلخه إذا كشطه، ونقل صاحب لسان العرب‏:‏ كلّ شيء يفلق عن قشر فقد انسلخ، ويقال‏:‏ سلخ الحرّ جلد الإنسان فانسلخ وسلخت المرأة عنها درعها، ويقال‏:‏ انسلخ النّهار من اللّيل‏:‏ أي خرج منه خروجًا لم يبق معه شيء من ضوئه‏.‏

وفي التّنزيل‏:‏ ‏{‏وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ‏}‏‏.‏

وهو عند الفقهاء خاصّ بنزع جلد الحيوان‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - يحرم سلخ جلد الآدميّ في حياته، وبعد مماته، لما في ذلك من هتك حرمته‏.‏

وهو محلّ اتّفاق بين علماء الإسلام، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ‏}‏‏.‏

وسلخ جلده يتنافى مع هذا التّكريم،ويحرم سلخ الحيوان وهو حيّ، لما في ذلك من التّعذيب‏.‏ ويكره أن يبدأ الجزّار بسلخ الحيوان قبل أن تزهق نفسه، ويسكن اضطرابه‏.‏

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ «بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ بديل بن ورقاء الخزاعيّ على جمل أورق يصيح في فجاج منىً بكلمات منها‏:‏ لا تعجلوا الأنفس حتّى تزهق، وأيّام منىً أيّام أكل وشرب»‏.‏

الاستئجار لسلخ الدّابّة بجلدها

3 - لا يصحّ استئجار شخص لسلخ دابّة بجلدها ‏"‏ أجرةً ‏"‏ لما فيه من غرر، لأنّه لا يدري أيخرج سليماً أم لا‏؟‏ وهل هو ثخين أم رقيق‏؟‏ ولأنّه لا يجوز أن يكون ثمناً في البيع، فلا يجوز أن يكون عوضاً عن المنفعة، فإن سلخه على أن يكون الجلد أجرةً لعمله، فله أجرة المثل، لفساد عقد الإجارة‏.‏

دية جلد الآدميّ

4 - قال الحنفيّة‏:‏ يجب في جلد البدن، حكومة عدل‏.‏ جاء في حاشية ابن عابدين‏:‏ أمّا جلد البدن،لحم الظّهر والبطن، والجراحات الّتي في غير الوجه والرّأس ففيها حكومة عدل‏.‏

ولم نقف على نصّ في حكم المسألة في المراجع الّتي تيسّر لنا الاطّلاع عليها، من كتب المالكيّة والحنابلة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إذا سلخ جلد معصوم الدّم وجب على السّالخ كمال الدّية، لأنّ في الجلد جمالاً، ومنفعةً ظاهرةً، فإن سلخ جلد من كان عضو من أعضائه مقطوعاً كيده، أو قطع عضواً مسلوخاً جلده سقط القسط من الدّية، فتجب في الأولى دية الجلد إلاّ قسط العضو، وتوزّع في الثّانية ساحة الجلد على جميع البدن‏.‏ فما يخصّ العضو المقطوع يحطّ من ديته، ويجب الباقي‏.‏ والتّفصيل في ‏(‏ديات‏)‏‏.‏

سُلْطان

انظر‏:‏ إمامة كبرى‏.‏

سَلَس

التّعريف

1 - السّلس في اللّغة‏:‏ السّهولة واللّيونة، والانقياد والاسترسال، وعدم الاستمساك قال في المصباح‏:‏ سلس سلساً من باب تعب سهل وَلاَنَ فهو سلس، ورجل سلس بالكسر بيّن السّلس بالفتح، والسّلاسة أيضاً سهولة الخلق، وسلس البول استرساله، وعدم استمساكه، لحدوث مرض بصاحبه، وصاحبه سلس بالكسر‏.‏

والسّلس عند الفقهاء‏:‏ استرسال الخارج بدون اختيار من بول، أو مذي، أو منيّ،أو ودي، أو غائط، أو ريح، وقد يطلق السّلس، على‏:‏ الخارج نفسه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاستحاضة‏:‏

2 - الاستحاضة‏:‏ هي سيلان الدّم من المرأة في غير أيّام حيضها وهو دم فساد‏.‏

ب - المرض‏:‏

3 - المرض في الاصطلاح‏:‏ ما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاصّ‏.‏

ج - النّجاسة‏:‏

4 - النّجاسة‏:‏ إمّا عينيّة، وهي‏:‏ مستقذر يمنع صحّة الصّلاة حيث لا مرخّص، أو حكميّة وهي وصف يقوم بالمحلّ، يمنع صحّة الصّلاة حيث لا مرخّص‏.‏

الحكم الإجماليّ

أ - الوضوء والصّلاة ممّن به سلس‏:‏

5 - السّلس‏:‏ حدث دائم، صاحبه معذور، فيعامل في وضوئه وعبادته، معاملةً خاصّةً تختلف عن معاملة غيره من الأصحّاء، فقد ذكر الحنفيّة أنّ المستحاضة، ومن به سلس البول، أو استطلاق البطن، أو انفلات الرّيح، أو رعاف دائم، أو جرح لا يرقأ، يتوضّئون لوقت كلّ صلاة، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المستحاضة تتوضّأ لوقت كلّ صلاة» ويقاس عليها غيرها من أصحاب الأعذار، ويصلّون بذلك الوضوء في الوقت ما شاءوا من الفرائض، والنّوافل، وإن توضّأ على السّيلان، وصلّى على الانقطاع، وتمّ الانقطاع باستيعاب الوقت الثّاني أعاد، وكذا إذا انقطع في خلال الصّلاة وتمّ الانقطاع‏.‏

ويبطل الوضوء عند خروج وقت المفروضة، بالحدث السّابق وهو الصّحيح وهو قول أبي حنيفة‏.‏

وقال زفر‏:‏ يبطل بدخول الوقت، وقال أبو يوسف ومحمّد‏:‏ يبطل بهما‏.‏

ويبقى الوضوء ما دام الوقت باقياً بشرطين‏:‏ أن يتوضّأ لعذره وأن لا يطرأ عليه حدث آخر كخروج ريح أو سيلان دم من موضع آخر‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ السّلس إن فارق أكثر الزّمان ولازم أقلّه فإنّه ينقض الوضوء فإن لازم النّصف وأولى الجلّ أو الكلّ فلا ينقض هذا إذا لم يقدر على رفعه فإن قدر على رفعه فإنّه ينقض مطلقاً كسلس مذي لطول عزوبة أو مرض يخرج من غير تذكّر أو تفكّر أمكنه رفعه بتداو أو صوم أو تزوّج ويغتفر له زمن التّداوي والتّزوّج وندب الوضوء عندهم إن لازم السّلس أكثر الزّمن وأولى نصفه لا إن عمّه فلا يندب، محلّ النّدب في ملازمة الأكثر إن لم يشقّ، لا إن شقّ الوضوء ببرد ونحوه فلا يندب وقد تردّد متأخّرو المالكيّة في اعتبار الملازمة من دوام وكثرة ومساواة وقلّة في وقت الصّلاة خاصّةً وهو من الزّوال إلى طلوع الشّمس من اليوم الثّاني أو اعتبارها مطلقاً لا بقيد وقت الصّلاة فيعتبر حتّى من الطّلوع إلى الزّوال، وفي قول العراقيّين من المالكيّة لا ينقض السّلس مطلقاً غير أنّه يندب الوضوء منه إن لم يلازم كلّ الزّمان فلا يندب‏.‏

وذكر الشّافعيّة ستّة شروط يختصّ بها من به حدث دائم كسلس واستحاضة وهي‏:‏ الشّدّ، والعصب، والوضوء لكلّ فريضة بعد دخول الوقت على الصّحيح كما في الرّوضة وتجزئ قبله على وجه شاذّ، وتجديد العصابة لكلّ فريضة، ونيّة الاستباحة على المذهب والمبادرة إلى الصّلاة في الأصحّ‏.‏

فلو أخّر لمصلحة الصّلاة كستر العورة والأذان والإقامة وانتظار الجماعة والاجتهاد في قبلته والذّهاب إلى مسجد وتحصيل السّترة لم يضرّ لأنّه لا يعدّ بذلك مقصّراً، ويتوضّأ لكلّ فرض ولو منذوراً كالمتيمّم لبقاء الحدث«لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش‏:‏ توضّئي لكلّ صلاة» ويصلّي به ما شاء من النّوافل فقط، وصلاة الجنازة لها حكم النّافلة، ولو زال العذر وقتاً يسع الوضوء والصّلاة كانقطاع الدّم مثلاً وجب الوضوء وإزالة ما على الفرج من الدّم ونحوه‏.‏

ومن أصابه سلس منيّ يلزمه الغسل لكلّ فرض، ولو استمسك الحدث بالجلوس في الصّلاة وجب بلا إعادة، وينوي المعذور استباحة الصّلاة لا رفع الحدث لأنّه دائم الحدث لا يرفعه وضوءه وإنّما يبيح له العبادة‏.‏

والحنابلة في هذا كلّه كالشّافعيّة إلاّ في مسألة الوضوء لكلّ فرض فإنّهم ذهبوا إلى أنّ صاحب الحدث الدّائم يتوضّأ لكلّ وقت، ويصلّي به ما شاء من الفرائض والنّوافل كما ذكر الحنفيّة والفقهاء سوى المالكيّة متّفقون على وجوب تجديد الوضوء للمعذور وقال المالكيّة باستحبابه كما سبق، والوضوء يكون بعد دخول الوقت عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في الوضوء والصّلاة‏.‏

إمامة من به سلس

اتّفق الفقهاء على أنّه إذا كان الإمام مريضاً بالسّلس والمأموم كذلك فالصّلاة جائزة، وأمّا إذا كان الإمام مريضاً بالسّلس والمأموم سليماً فقد اختلف الفقهاء في جواز إمامة المريض لصلاة غيره من الأصحّاء على قولين‏:‏

القول الأوّل‏:‏ وهو قول الحنفيّة والحنابلة ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة عدم الجواز لأنّ أصحاب الأعذار يصلّون مع الحدث حقيقةً، لكن جعل الحدث الموجود في حقّهم كالمعدوم، للحاجة إلى الأداء فلا يتعدّاهم، لأنّ الضّرورة تقدّر بقدرها ولأنّ الصّحيح أقوى حالاً من المعذور ولا يجوز بناء القويّ على الضّعيف‏.‏

والقول الثّاني‏:‏ وهو قول المالكيّة في المشهور والشّافعيّة في الأصحّ الجواز لصحّة صلاتهم من غير إعادة ولأنّه إذا عفي عن الأعذار في حقّ صاحبها عفي عنها في حقّ غيره ولأنّ عمر رضي الله عنه كان إماماً وأخبر أنّه يجد ذلك ‏"‏ أي سلس المذي ‏"‏ ولا ينصرف، إلاّ أنّ المالكيّة صرّحوا بكراهة إمامة أصحاب الأعذار للأصحّاء‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏عذر‏)‏‏.‏

سَلَف

انظر‏:‏ سلم، قرض‏.‏

سَلَم

التّعريف

1 - من معاني السّلم في لغة العرب الإعطاء، والتّسليف يقال‏:‏ أسلم الثّوب للخيّاط أي‏:‏ أعطاه إيّاه‏.‏ قال المطرّزيّ‏:‏ أسلم في البرّ، أي أسلف، من السّلم، وأصله‏:‏ أسلم الثّمن فيه، فحذف‏.‏

والسّلم في الاصطلاح عبارة عن ‏"‏ بيع موصوف في الذّمّة ببدل يعطى عاجلاً ‏"‏ وقد اختلف الفقهاء في تعريفه تبعاً لاختلافهم في الشّروط المعتبرة فيه‏:‏

فالحنفيّة والحنابلة الّذين شرطوا في صحّته قبض رأس المال في مجلس العقد، وتأجيل المسلم فيه - احترازاً من السّلم الحالّ - عرّفوه بما يتضمّن ذلك، فقال ابن عابدين‏:‏ ‏"‏ هو شراء آجل بعاجل ‏"‏‏.‏

ونصّت المادّة ‏(‏123‏)‏ من المجلّة العدليّة على أنّه ‏"‏ بيع مؤجّل بمعجّل ‏"‏‏.‏

وجاء في الإقناع بأنّه‏:‏ عقد على موصوف في الذّمّة مؤجّل بثمن مقبوض في مجلس العقد‏.‏

والشّافعيّة الّذين شرطوا لصحّة السّلم قبض رأس المال في المجلس، وأجازوا كون السّلم حالّاً ومؤجّلاً عرّفوه بأنّه ‏"‏ عقد على موصوف في الذّمّة ببدل يعطى عاجلاً ‏"‏ فلم يقيّدوا المسلم فيه الموصوف في الذّمّة بكونه مؤجّلاً، لجواز السّلم الحالّ عندهم‏.‏

أمّا المالكيّة الّذين منعوا السّلم الحالّ، ولم يشترطوا تسليم رأس المال في مجلس العقد، وأجازوا تأجيله اليومين والثّلاثة لخفّة الأمر، فقد عرّفوه بأنّه ‏"‏ بيع معلوم في الذّمّة محصور بالصّفة بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم ‏"‏‏.‏

فتعبير ‏"‏ أو ما هو في حكمها ‏"‏ يشير إلى جواز تأخير رأس مال السّلم اليومين والثّلاثة، حيث إنّه يعتبر في حكم التّعجيل بناءً على أنّ ما قارب الشّيء يعطى حكمه‏.‏

وقوله ‏"‏ إلى أجل معلوم ‏"‏ يبيّن وجوب كون المسلم فيه مؤجّلاً، احترازاً من السّلم الحالّ ويسمّي الفقهاء المشتري في هذا العقد ‏"‏ ربّ السّلم ‏"‏ أو ‏"‏ المسلم ‏"‏ والبائع ‏"‏ المسلم إليه ‏"‏، والمبيع ‏"‏ المسلم فيه ‏"‏ والثّمن، ‏"‏ رأس مال السّلم ‏"‏‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الدّين‏:‏

2 - وهو ما يثبت في الذّمّة من غير أن يكون معيّناً مشخّصاً، سواء كان نقداً أو غيره‏.‏

‏(‏ر‏:‏ دين‏)‏ والدّين أعمّ من السّلم‏.‏

ب - بيع العين الغائبة الموصوفة في الذّمّة‏:‏

3 - وهو نوعان‏:‏ أحدهما أن تكون العين معيّنةً‏.‏ والثّاني أن لا تكون العين معيّنةً‏.‏

والفرق بين هذا النّوع الثّاني وبين السّلم أنّ السّلم يشترط فيه تأجيل تسليم المبيع، أمّا بيع الموصوف في الذّمّة فقد يكون حالّاً‏.‏ وانظر ‏(‏بيع‏)‏‏.‏

وفرّق الشّافعيّة في بيع العين الغائبة الموصوفة في الذّمّة بين أن يكون التّعاقد بلفظ السّلم، أو بلفظ البيع، فإن كان بلفظ ‏"‏ السّلم ‏"‏ اشترط تسليم الثّمن قبل التّفرّق‏.‏

أمّا إن كان بلفظ ‏"‏ البيع ‏"‏ فلا يشترط تسليم الثّمن اعتباراً باللّفظ وعلى كون ذلك بيعاً يشترط تعيين أحد العوضين وإلاّ يصير بيع دين بدين وهو باطل ولا يشترط قبضه في المجلس لأنّ التّعيين بمنزلة القبض لصيرورة المعيّن حالّاً لا يدخله أجل أبداً‏.‏

ج - عقد الإجارة‏:‏

4 - وهي بيع المنفعة المعلومة في مقابل عوض معلوم‏.‏

د - الاستصناع‏:‏

5 - عقد مقاولة مع أهل الصّنعة على أن يعمل شيئاً‏.‏

مشروعيّة السّلم

6 - ثبتت مشروعيّة عقد السّلم بالكتاب والسّنّة والإجماع‏.‏

أ - أمّا الكتاب‏:‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمّىً فَاكْتُبُوهُ‏}‏‏.‏ قال ابن عبّاس - رضي الله عنه -‏:‏ أشهد أنّ السّلف المضمون إلى أجل مسمّىً قد أحلّه اللّه في كتابه وأذن فيه، ثمّ قرأ هذه الآية‏.‏

ووجه الدّلالة في الآية الكريمة‏:‏ أنّها أباحت الدّين، والسّلم نوع من الدّيون، قال ابن العربيّ‏:‏ ‏"‏ الدّين هو عبارة عن كلّ معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً، والآخر في الذّمّة نسيئةً، فإنّ العين عند العرب ما كان حاضراً، والدّين ما كان غائباً ‏"‏‏.‏

فدلّت الآية على حلّ المداينات بعمومها، وشملت السّلم باعتباره من أفرادها، إذ المسلم فيه ثابت في ذمّة المسلم إليه إلى أجله‏.‏

ب - وأمّا السّنّة‏:‏ فما روى ابن عبّاس - رضي الله عنهما - «عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قدم المدينة والنّاس يسلفون في التّمر السّنتين والثّلاث، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»‏.‏

فدلّ الحديث الشّريف على إباحة السّلم وعلى الشّروط المعتبرة فيه وحديث عبد الرّحمن بن أبزى وعبد اللّه بن أبي أوفى قالا‏:‏ «كنّا نصيب المغانم مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فكان يأتينا أنباط من أنباط الشّام، فنسلفهم في الحنطة والشّعير والزّيت إلى أجل مسمًّى، فقلت، أكان لهم زرع أو لم يكن لهم زرع‏؟‏ فقال‏:‏ ما كنّا نسألهم عن ذلك»‏.‏

ج - وأمّا الإجماع‏:‏ فقال ابن المنذر‏:‏ أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ السّلم جائز‏.‏

حكمة مشروعيّة السّلم

7 - إنّ عقد السّلم ممّا تدعو إليه الحاجة، ومن هنا كان في إباحته رفع للحرج عن النّاس، فالمزارع مثلاً قد لا يكون عنده المال الّذي ينفقه في إصلاح أرضه وتعهّد زرعه إلى أن يدرك، ولا يجد من يقرضه ما يحتاج إليه من المال، ولذلك فهو في حاجة إلى نوع من المعاملة يتمكّن بها من الحصول على ما يحتاج إليه من المال، وإلاّ فاتت عليه مصلحة استثمار أرضه، وكان في حرج ومشقّة وعنت، فمن أجل ذلك أبيح السّلم‏.‏‏.‏

وقد أشار إلى هذه الحكمة ابن قدامة في المغني حيث قال‏:‏ ‏"‏ ولأنّ المثمّن في البيع أحد عوضي العقد، فجاز أن يثبت في الذّمّة كالثّمن، ولأنّ بالنّاس حاجةً إليه، لأنّ أرباب الزّروع والثّمار والتّجارات يحتاجون إلى النّفقة على أنفسهم وعليها لتكمل، وقد تعوزهم النّفقة، فجوّز لهم السّلم ليرتفقوا ويرتفق المسلم بالاسترخاص‏.‏

مدى موافقة السّلم للقياس

8 - بعدما ثبتت مشروعيّة عقد السّلم بالكتاب والسّنّة والإجماع اختلف الفقهاء في كون هذه المشروعيّة على وفق القياس ومقتضى القواعد العامّة في الشّريعة، أم أنّها جاءت استثناءً على خلاف القياس لحاجة النّاس إلى هذا العقد، وذلك على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ لجمهور الفقهاء من ‏"‏ الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‏"‏، وهو أنّ السّلم عقد جائز على خلاف القياس‏.‏

قال ابن نجيم‏:‏ ‏"‏ هو على خلاف القياس، إذ هو بيع المعدوم، ووجب المصير إليه بالنّصّ والإجماع للحاجة ‏"‏‏.‏

وقال زكريّا الأنصاريّ‏:‏ ‏"‏ السّلم عقد غرر جوّز للحاجة‏.‏ وفي منح الجليل‏:‏ ‏"‏ صرّح في المدوّنة بأنّ السّلم رخصة مستثناة من بيع ما ليس عند بائعه ‏"‏‏.‏

والثّاني‏:‏ لتقيّ الدّين بن تيميّة وابن القيّم، وهو أنّ السّلم عقد مشروع على وفق القياس، وليس فيه مخالفة للقواعد الشّرعيّة‏.‏

قال ابن تيميّة‏:‏ وأمّا قولهم ‏"‏ السّلم على خلاف القياس ‏"‏ فقولهم هذا من جنس ما رووا عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «لا تبع ما ليس عندك» وأرخصّ في السّلم‏.‏

وهذا لم يرو في الحديث، وإنّما هو من كلام بعض الفقهاء، وذلك أنّهم قالوا‏:‏ السّلم بيع الإنسان ما ليس عنده، فيكون مخالفاً للقياس‏.‏

ونهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده‏:‏ إمّا أن يراد به بيع عين معيّنة، فيكون قد باع مال الغير قبل أن يشتريه‏.‏ وفيه نظر‏.‏

وإمّا أن يراد به بيع ما لا يقدر على تسليمه، وإن كان في الذّمّة‏.‏ وهذا أشبه‏.‏ فيكون قد ضمن له شيئاً لا يدري هل يحصل أو لا يحصل‏.‏ وهذا في السّلم الحالّ إذا لم يكن عنده ما يوفّيه‏.‏ والمناسبة فيه ظاهرة‏.‏

فأمّا السّلم المؤجّل، فإنّه دين من الدّيون، وهو كالابتياع بثمن مؤجّل‏.‏ فأيّ فرق بين كون أحد العوضين مؤجّلاً في الذّمّة، وكون العوض الآخر مؤجّلاً في الذّمّة، وقد قال تعالى ‏{‏إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمّىً فَاكْتُبُوهُ‏}‏ قال ابن عبّاس‏:‏ أشهد أنّ السّلف المضمون في الذّمّة حلال في كتاب اللّه، وقرأ هذه الآية‏.‏ فإباحة هذا على وفق القياس لا على خلافه‏.‏

وقال ابن القيّم في إعلام الموقّعين‏:‏ ‏"‏ وأمّا السّلم، فمن ظنّ أنّه على خلاف القياس فوهم دخوله تحت قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «لا تبع ما ليس عندك» فإنّه بيع معدوم، والقياس يمنع منه‏.‏

والصّواب أنّه على وفق القياس، فإنّه بيع مضمون في الذّمّة موصوف مقدور على تسليمه غالباً، وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة، وقد تقدّم أنّه على وفق القياس‏.‏

وقد فطر اللّه العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين السّلم إليه في مغلّ مضمون في ذمّته، مقدور في العادة على تسليمه‏.‏ فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكّى والرّبا والبيع ‏"‏‏.‏

أركان السّلم وشروط صحّته

9 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ أركان السّلم ثلاثة‏:‏

أولاً - الصّيغة ‏"‏ وهي الإيجاب والقبول ‏"‏‏.‏

ثانياً - والعاقدان ‏"‏ وهما المسلم، والمسلم إليه ‏"‏‏.‏

ثالثاً - والمحلّ ‏"‏ وهو شيئان‏:‏ رأس المال، والمسلم فيه ‏"‏‏.‏

وخالف في ذلك الحنفيّة حيث اعتبروا ركن السّلم هو الصّيغة المؤلّفة من الإيجاب والقبول الدّالّين على اتّفاق الإرادتين وتوافقهما على إنشاء هذا العقد‏.‏

الرّكن الأوّل‏:‏ الصّيغة

10 - اتّفق الفقهاء على صحّة الإيجاب بلفظ السّلم أو السّلف، وكّل ما اشتقّ منهما، كأسلفتك وأسلمتك، وأعطيتك كذا سلماً أو سلفاً في كذا‏.‏‏.‏ لأنّهما لفظان بمعنًى واحد، كلاهما اسم لهذا العقد‏.‏ وكذا على صحّة القبول بكلّ لفظ يدلّ على الرّضا بما أوجبه الأوّل، مثل‏:‏ قبلت ورضيت ونحو ذلك‏.‏

11 - غير أنّ الفقهاء اختلفوا في صحّة انعقاد السّلم بلفظ البيع على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ لأبي حنيفة وصاحبيه والمالكيّة والشّافعيّة في القول المقابل للأصحّ والحنابلة وهو أنّه ينعقد السّلم بلفظ البيع إذا بيّن فيه إرادة السّلم وتحقّقت شروطه، كأن يقول ربّ السّلم‏:‏ اشتريت منك خمسين رطلاً زيتاً صفته كذا إلى أجل كذا بعشرة دنانير حالّة، وقبل المسلم إليه‏.‏ أو يقول المسلم إليه‏:‏ بعتك عشرين صاعاً من قمح صفته كذا إلى أجل كذا، بخمسين ديناراً معجّلة في المجلس‏.‏ وقبل الطّرف الآخر‏.‏

وقال ابن تيميّة‏:‏ التّحقيق أنّ المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت، فأيّ لفظ من الألفاظ عرف به المتعاقدان مقصودهما انعقد به العقد‏.‏ وهذا عامّ في جميع العقود، فإنّ الشّارع لم يحدّ ألفاظ العقود حدّاً، بل ذكرها مطلقةً‏.‏ فكما تنعقد العقود بما يدلّ عليها من الألفاظ الفارسيّة والرّوميّة وغيرهما من الألسن العجميّة، فهي تنعقد بما يدلّ عليها من الألفاظ العربيّة‏.‏ ولهذا وقع الطّلاق والعتاق بكلّ لفظ يدلّ عليه، وكذلك البيع وغيره ‏"‏‏.‏

والثّاني‏:‏ لزفر من الحنفيّة والشّافعيّة في وجه صحّحه الشّيخان النّوويّ والرّافعيّ، وهو أنّ السّلم لا ينعقد بلفظ البيع، وحجّة زفر ‏"‏ أنّ القياس أن لا ينعقد أصلاً، لأنّه بيع ما ليس عند الإنسان، وأنّه منهيّ عنه، إلاّ أنّ الشّرع ورد بجوازه بلفظ السّلم بقوله ورخّص في السّلم ‏"‏ فوجب الاقتصار عليه، لعدم إجزاء سواه‏.‏

أمّا حجّة أصحاب هذا الرّأي من الشّافعيّة فهو أنّه يعتبر لفظه، وينعقد بيعاً نظراً للّفظ ويشترط لصحّته تعيين أحد العوضين، ولا يشترط فيه قبض رأس المال في المجلس لأنّ السّلم غير البيع، فلا ينعقد بلفظه‏.‏

12 - واشترط جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة في صيغة السّلم أن تكون باتّةً لا خيار فيها لأيّ من العاقدين، وذلك لأنّه عقد لا يقبل خيار الشّرط، إذ يشترط لصحّته تمليك رأس المال وإقباضه للمسلم إليه قبل التّفرّق، ووجوب تحقّقهما مناف لخيار الشّرط‏.‏ قال الشّافعيّ في ‏"‏ الأمّ ‏"‏‏:‏ لا يجوز الخيار في السّلف‏.‏ لو قال رجل لرجل‏:‏ أبتاع منك بمائة دينار أنقدكها مائة صاع تمراً إلى شهر على أنّي بالخيار بعد تفرّقنا من مقامنا الّذي تبايعنا فيه، أو أنت بالخيار، أو كلانا بالخيار، لم يجز فيه البيع كما يجوز أن يتشارطا الخيار ثلاثًا في بيوع الأعيان‏.‏

وكذلك لو قال‏:‏ أبتاع منك مائة صاع تمراً بمائة دينار على أنّي بالخيار يوماً، إن رضيت أعطيتك الدّنانير، وإن لم أرض فالبيع بيني وبينك مفسوخ لم يجز، لأنّ هذا بيع موصوف، والبيع الموصوف لا يجوز إلاّ بأن يقبض صاحبه ثمنه قبل أن يتفرّقا، لأنّ قبضه ما سلّف فيه قبض ملك، وهو لو قبّضه مال الرّجل على أنّه بالخيار لم يكن قبض ملك‏.‏

ولا يجوز أن يكون الخيار لواحد منهما، لأنّه إن كان للمشتري، فلم يملك البائع ما دفع إليه، وإن كان للبائع فلم يملّكه البائع ما باعه، لأنّه عسى أن ينتفع بماله ثمّ يردّه إليه، فلا يجوز البيع فيه إلاّ مقطوعاً بلا خيار ‏"‏‏.‏

وفي بدائع الصّنائع‏:‏ ‏"‏ يشترط أن يكون العقد باتّاً عاريّاً عن شرط الخيار للعاقدين أو لأحدهما ‏"‏، لأنّ جواز البيع مع شرط الخيار في الأصل ثبت معدولاً به عن القياس لأنّه شرط يخالف مقتضى العقد بثبوت الحكم للحال، وشرط الخيار يمنع انعقاد العقد في حقّ الحكم‏.‏ ومثل هذا الشّرط مفسد للعقد في الأصل، إلاّ أنّا عرفنا جوازه بالنّصّ والنّصّ ورد في بيع العين، فبقي ما وراءه على أصل القياس، خصوصاً إذا لم يكن في معناه، والسّلم ليس في معنى بيع العين فيما شرع له الخيار، لأنّه شرع لدفع الغبن، والسّلم مبناه على الغبن ووكس الثّمن، لأنّه بيع المفاليس، فلم يكن في معنى مورد النّصّ، فورود النّصّ هناك لا يكون وروداً هاهنا دلالةً، فبقي الحكم فيه للقياس‏.‏

ولأنّ قبضه رأس المال من شرائط الصّحّة على ما نذكره، ولا صحّة للقبض إلاّ في الملك، وخيار الشّرط يمنع ثبوت الملك، فيمنع صحّة القبض‏.‏ ومثله في شرح منتهى الإرادات‏.‏ وخالف المالكيّة في ذلك وقالوا بجواز خيار الشّرط في السّلم للعاقدين أو لأحدهما ثلاثة أيّام فما دون ذلك، بشرط ألاّ يتمّ فقد رأس المال، فإن فقد فسد العقد مع شرط الخيار، لتردّد رأس المال بين السّلفيّة والثّمنيّة‏.‏

هذا هو الرّأي المعتمد عند المالكيّة، وهو مبنيّ على جواز تأخير قبض رأس مال السّلم ثلاثة أيّام فما دونها، لأنّ هذا التّأخير اليسير في حكم التّعجيل، فيكون معفوّاً عنه، إذ القاعدة أنّ ما قارب الشّيء يعطى حكمه‏.‏

العاقدان

13 - اشترط الفقهاء في كلّ واحد من العاقدين أن يكون أهلاً لصدوره عنه، وأن يكون له ولاية إذا كان يعقد لغيره‏.‏

أمّا الأهليّة المشترطة فهي أهليّة الأداء الّتي تعني صلاحيّة الشّخص لصدور الأقوال منه على وجه يعتدّ به شرعاً، وتتحقّق هذه الأهليّة في الإنسان البالغ العاقل الرّشيد غير المحجور عليه بأيّ سبب من أسباب الحجر‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ أهليّة‏)‏‏.‏

وأمّا الولاية المطلوبة فيمن يعقد السّلم عن غيره فهي كونه مخوّلاً شرعاً في ذلك بأحد طريقين‏:‏ إمّا بالنّيابة الاختياريّة الّتي تثبت بالوكالة‏.‏ ولا بدّ فيها أن يكون كلّ من الوكيل والموكّل أهلاً لإنشاء عقود المعاوضات الماليّة ‏(‏ر‏:‏ وكالة‏)‏‏.‏

وإمّا بالنّيابة الإجباريّة الّتي تثبت بتولية الشّارع، وتكون لمن يلي مال المحجور عليهم من الأولياء والأوصياء، الّذين جعلت لهم سلطة شرعيّة على إبرام العقود وإنشاء التّصرّفات الماليّة لمصلحة من يلونهم‏.‏ - ‏(‏ر‏:‏ ولاية‏)‏‏.‏

وكذلك شرط الحنفيّة في عقد السّلم ألاّ يكون أحد العاقدين في مرض الموت جعلوا لسلم المريض أحكاماً خاصّةً، حمايةً لحقوق الدّائنين والورثة من تصرّفاته الضّارّة بها‏.‏ حيث إنّ السّلم مظنّة المحاباة لأنّ المبيع يباع بأقلّ من ثمنه‏.‏

وفرّقوا في حكم السّلم في مرض الموت بين ما إذا كان ربّ السّلم مريضاً، وبين ما إذا كان المسلم إليه مريضاً‏.‏ تفصيل ذلك في مطوّلات كتبهم‏.‏

المعقود عليه

أ - الشّروط الّتي ترجع إلى البدلين معاً‏:‏

14 - أ - ذهب الفقهاء إلى أنّه يشترط لصحّة عقد السّلم أن يكون كلّ من رأس المال والمسلم فيه مالاً متقوّماً، فلا يجوز أن يكون أحدهما خمراً أو خنزيراً أو غير ذلك ممّا لا يعدّ مالاً منتفعاً به شرعاً‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ مال‏)‏‏.‏

ب - ويشترط لصحّته ألاّ يكون البدلان مالين يتحقّق في سلم أحدهما بالآخر ربا النّسيئة، وذلك بألاّ يجمع البدلين أحد وصفي علّة ربا الفضل، حيث إنّ المسلم فيه مؤجّل في الذّمّة، فإذا جمعه مع رأس المال أحد وصفي علّة ربا الفضل، تحقّق ربا النّساء فيه، وكان فاسداً باتّفاق الفقهاء وذلك لما ورد عن عبادة بن الصّامت - رضي الله عنه - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ رباً‏)‏‏.‏

ج - وذهب جمهور الفقهاء من ‏"‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‏"‏ إلى أنّ المنافع أموال بحدّ ذاتها، وأنّها تحاز بحيازة أصولها ومصادرها، وهي الأعيان المنتفع بها‏.‏

ومن ثَمَّ أجازوا كونها رأس مال ومسلماً فيه في عقد السّلم‏.‏‏.‏ وعلى ذلك لو قال ربّ السّلم‏:‏ أسلمت إليك سكنى داري هذه سنةً، أو خدمتي شهراً في كذا إلى أجل كذا صحّ ذلك السّلم‏.‏

ولو قال له‏:‏أسلمت إليك عشرين ديناراً في منفعة موصوفة في ذمّتك إلى أجل كذا صحّ السّلم

د - وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز كون أيّ من البدلين في السّلم منفعةً، لأنّ المنافع مع أنّها ملك لا تعتبر أموالاً في مذهبهم، إذ المال عندهم ‏"‏ ما يميل إليه طبع الإنسان ويمكن ادّخاره لوقت الحاجة ‏"‏ والمنافع غير قابلة للإحراز والادّخار، إذ هي أعراض تحدث شيئاً فشيئاً، وآناً فآناً، وتنتهي بانتهاء وقتها، وما يحدث فيها غير الّذي ينتهي‏.‏

وعلى ذلك فلا يصحّ جعل المنافع بدلاً في عقد السّلم عندهم‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ منافع‏)‏‏.‏

ب - شروط رأس مال السّلم‏:‏

يشترط الفقهاء في رأس مال السّلم شرطين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون معلوماً‏:‏

15 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يشترط في رأس المال أن يكون معلوماً، وذلك لأنّه بدل في عقد معاوضة ماليّة، فلا بدّ من كونه معلوماً، كسائر عقود المعاوضات‏.‏

ورأس المال إمّا أن يوصف في الذّمّة، ثمّ يعيّن في مجلس العقد، وإمّا أن يكون معيّناً عند العقد، كأن يكون حاضراً مشاهداً، ثمّ يقع العقد على عينه‏.‏

فإن كان موصوفاً، فيجب أن ينصّ في عقد السّلم على جنسه ونوعه وقدره وصفته‏.‏

وعلى هذا، فإن قبل الطّرف الآخر، وجب تعيين رأس المال في مجلس العقد وتسليمه إليه وفاءً بالعقد‏.‏

واختلف الفقهاء في اعتبار الإشارة إلى رأس مال السّلم الحاضر هل هي كافية في رفع الجهالة عنه، واعتباره معلوماً، أم لا بدّ من بيان القدر والصّفات بالإضافة إلى ذلك‏؟‏‏.‏ فذهب المالكيّة والصّاحبان من الحنفيّة والشّافعيّة في الأظهر وهو ظاهر كلام الخرقيّ من الحنابلة إلى أنّه تكفي الرّؤية إذا كان رأس مال السّلم معيّناً سواء كان مثليّاً أو قيميّاً ولا يشترط ذكر قدره أو صفاته‏.‏

ووجه ذلك ‏"‏ أنّ الحاجة إلى تعيين رأس المال، وأنّه حصل بالإشارة إليه، فلا حاجة إلى إعلام قدره‏.‏ ولهذا لم يشترط إعلام قدر الثّمن في بيع العين ولا في السّلم إذا كان رأس المال ممّا لا يتعلّق العقد بقدره ‏"‏‏.‏

وقال الشّيرازيّ‏:‏ ‏"‏ لا يجب ذكر صفاته ومقداره، لأنّه عوض في عقد لا يقتضي ردّ المثل، فوجب أن تغني المشاهدة عن ذكر صفاته، كالمهر والثّمن في البيع ‏"‏‏.‏

وذهب الحنابلة على المعتمد عندهم والشّافعيّ في قول، إلى أنّه يجب ذكر مقداره وصفاته، ولا يصحّ السّلم إلاّ ببيانها‏.‏

قال الشّيرازيّ‏:‏ ‏"‏ لأنّه لا يؤمن أن ينفسخ السّلم بانقطاع المسلم فيه، فإذا لم يعرف مقداره وصفته لم يعرف ما يردّ ‏"‏‏.‏

وجاء في كشّاف القناع‏:‏ ‏"‏ ويشترط كونه، أي رأس مال السّلم معلوم الصّفة والقدر، كالمسلم فيه، لأنّه قد يتأخّر تسليم المعقود عليه، ولا يؤمن انفساخه، فوجب معرفة رأس ماله ليردّ بدله، كالقرض‏.‏ فعلى هذا لا يصحّ السّلم بصبرة مشاهدة لا يعلمان قدرها ‏"‏‏.‏ وذهب أبو حنيفة والثّوريّ والقاضي عبد الوهّاب البغداديّ من المالكيّة إلى أنّه لا يشترط ذكر صفات رأس مال السّلم، سواء أكان مثليّاً أو قيميّاً، حيث إنّ المشاهدة تكفي في رفع الجهالة عن الأوصاف‏.‏

أمّا قدره، فهناك فرق بين كون رأس المال مثليّاً يتعلّق العقد بمقداره وبين كونه قيميّاً‏.‏

فإن كان مثليّاً - كالمكيلات والموزونات والذّرعيّات والعدديّات المتقاربة - فإنّه يجب بيان القدر، ولا تكفي المشاهدة، أمّا إذا كان قيميّاً، فلا يشترط بيان قدره، وتكفي الإشارة إليه‏.‏

الشّرط الثّاني‏:‏ تسليم رأس المال في مجلس العقد

16 - ذهب جمهور الفقهاء من ‏"‏ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‏"‏ إلى أنّ من شروط صحّة السّلم تسليم رأس ماله في مجلس العقد، فلو تفرّقا قبله بطل العقد‏.‏

واستدلّوا على ذلك‏:‏

أوّلاً‏:‏ بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»‏.‏ والتّسليف في اللّغة الّتي خاطبنا بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هو الإعطاء، فيكون معنى كلامه عليه الصلاة والسلام ‏"‏ فليعط ‏"‏، لأنّه لا يقع اسم السّلف فيه حتّى يعطيه ما أسلفه قبل أن يفارق من أسلفه، فإن لم يدفع إليه رأس المال فإنّه يكون غير مسلف شيئاً، بل واعداً بأن يسلف‏.‏ قال الرّمليّ‏:‏ ‏"‏ ولأنّ السّلم مشتقّ من تسليم رأس المال، أي تعجيله، وأسماء العقود المشتقّة من المعاني لا بدّ من تحقّق تلك المعاني فيها ‏"‏‏.‏ ثانياً‏:‏ بأنّ الافتراق قبل قبض رأس المال يكون افتراقاً عن كالئ بكالئ، أي‏:‏ نسيئة بنسيئة، وهو منهيّ عنه بالإجماع‏.‏

ثالثاً‏:‏ بأنّ في السّلم غرراً احتمل للحاجة، فجبر ذلك بتعجيل قبض العوض الآخر، وهو الثّمن، كي لا يعظم الغرر في الطّرفين‏.‏

رابعاً‏:‏ بأنّ الغاية الشّرعيّة المقصودة في العقود ترتّب آثارها عليها بمجرّد انعقادها، فإذا تأخّر البدلان كان العقد عديم الفائدة للطّرفين خلافاً لحكمه الأصليّ مقتضاه وغايته، ومن هنا قال ابن تيميّة‏:‏ عن تأخير رأس المال في السّلم فإنّ ذلك منع منه لئلاّ تبقى ذمّة كلّ منهما مشغولةً بغير فائدة حصلت لا له ولا للآخر، والمقصود من العقود القبض، فهو عقد لم يحصل به مقصود أصلاً، بل هو التزام بلا فائدة‏.‏

خامساً‏:‏ إنّ مطلوب الشّارع صلاح ذات البين، وحسم مادّة الفساد والفتن‏.‏ وإذا اشتملت المعاملة على شغل الذّمّتين، توجّهت المطالبة من الجهتين، فكان ذلك سبباً لكثرة الخصومات والعداوات، فمنع الشّرع ما يفضي إلى ذلك باشتراط تعجيل قبض رأس المال‏.‏ ولا يخفى أنّ اشتراط قبض رأس مال السّلم قبل التّفرّق عند جمهور الفقهاء إنّما هو شرط لبقاء العقد على الصّحّة، وليس شرط صحّة، لأنّ السّلم ينعقد صحيحاً بدون قبض رأس المال، ثمّ يفسد بالافتراق قبل القبض‏.‏ وبقاء العقد صحيحاً يعقب العقد ولا يتقدّمه، فيصلح القبض شرطاً له‏.‏

وقد جاء في م ‏(‏387‏)‏ من مجلّة الأحكام العدليّة‏:‏ ‏"‏ يشترط لبقاء صحّة السّلم تسليم الثّمن في مجلس العقد، فإذا تفرّق العاقدان قبل تسليم رأس مال السّلم انفسخ العقد ‏"‏‏.‏

وقد خالف المالكيّة في المشهور عندهم جمهور الفقهاء في اشتراط تعجيل رأس مال السّلم في مجلس العقد، وقالوا‏:‏ يجوز تأخيره اليومين والثّلاثة بشرط وبغير شرط، اعتباراً للقاعدة الفقهيّة ‏"‏ ما قارب الشّيء يعطى حكمه ‏"‏، حيث إنّهم اعتبروا هذا التّأخير اليسير معفوّاً عنه، لأنّه في حكم التّعجيل، ومن هنا قال القاضي عبد الوهّاب البغداديّ في كتابه ‏"‏ الإشراف ‏"‏ في تعليل جواز ذلك التّأخير اليسير‏:‏ ‏"‏ فأشبه التّأخير للتّشاغل بالقبض ‏"‏‏.‏

قال ابن رشد في ‏"‏ المقدّمات الممهّدات ‏"‏‏:‏ ‏"‏ وأمّا تأخيره فوق الثّلاث بشرط، فذلك لا يجوز باتّفاق، كان رأس المال عيناً أو عَرَضَاً‏.‏ فإن تأخّر فوق الثّلاث بغير شرط لم يفسخ إن كان عَرَضَاً‏.‏ واختلف فيه إن كان عيناً‏:‏ فعلى ما في المدوّنة من باب السّلم يفسد بذلك ويفسخ‏.‏ وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب أنّه لا يفسخ إلاّ أن يتأخّر فوق الثّلاث بشرط ‏"‏‏.‏

17 - بقي بعد هذا مسألة مهمّة، وهي‏:‏ ما لو عجّل المسلم بعض رأس المال في المجلس وأجّل البعض الآخر فما هو الحكم‏؟‏‏.‏ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ للحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، وهو أنّه يبطل السّلم فيما لم يقبض، ويسقط بحصّته من المسلم فيه، ويصحّ في الباقي بقسطه‏.‏

قال ابن نجيم‏:‏ ‏"‏ وصحّ في حصّة النّقد لوجود قبض رأس المال بقدره، ولا يشيع الفساد لأنّه طارئ، إذ السّلم وقع صحيحاً في الكلّ، ولذا لو نقد الكلّ قبل الافتراق صحّ ‏"‏‏.‏

والثّاني‏:‏ للمالكيّة وابن أبي ليلى، وهو أنّه يبطل السّلم في الصّفقة كلّها‏.‏

وعلّل المالكيّة قولهم هذا بأنّه ‏"‏ متى قبض البعض وأخّر البعض فسد، لأنّه دين بدين ‏"‏‏.‏ أي‏:‏ ابتداء دين بدين‏.‏

ومستند ابن أبي ليلى أنّ الأصل عنده في أبواب المعاملات أنّ العقد إذا ورد الفسخ على بعضه انفسخ كلّه‏.‏

18 - ولو أراد ربّ السّلم أن يجعل الدّين الّذي في ذمّة المسلم إليه رأس مال سلم، فإنّ ذلك غير جائز عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ومالك والأوزاعيّ والثّوريّ وغيرهم، لأنّه يؤدّي إلى بيع الدّين بالدّين‏.‏

وخالف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيميّة وابن القيّم فذهبا إلى أنّ الدّين الّذي في ذمّة المدين إن كان حالّاً يجوز جعله رأس مال سلم، وحجّتهما على الجواز هو عدم تحقّق المنهيّ عنه - وهو بيع الكالئ بالكالئ، أي‏:‏ الدّين المؤخّر بالدّين المؤخّر - على هذه المسألة إذا كان الدّين المجعول رأس مال السّلم غير مؤجّل في ذمّة المدين، لأنّها تكون من قبيل بيع الدّين المؤخّر بالدّين المعجّل، ولوجود القبض الحكميّ لرأس مال السّلم من قبل المسلم إليه في مجلس العقد، لكونه حالّاً في ذمّته‏.‏ فكأنّ المسلم - إذ جعل ماله في ذمّته معجّلاً رأس مال السّلم - قبضه منه وردّه إليه، فصار ديناً معجّلاً مقبوضاً حكماً، فارتفع المانع الشّرعيّ، ولأنّ دعوى الإجماع على المنع غير مسلّمة‏.‏

أمّا إذا كان الدّين المجعول رأس مال السّلم مؤجّلاً في ذمّة المدين فلا خلاف لأحد من الفقهاء في منع ذلك شرعاً، وأنّه من بيع الكالئ بالكالئ المحظور، لكونه ذريعةً إلى ربا النّسيئة‏.‏

19 - أمّا إذا جعل ربّ السّلم ماله الموجود في يد المسلم إليه رأس مال السّلم، فهل يصحّ ذلك، وينوب القبض السّابق للعقد مناب القبض المستحقّ في مجلسه، أم لا يصحّ ذلك، ويحتاج إلى قبض جديد‏؟‏‏.‏

للفقهاء في المسألة قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ للحنابلة، وهو أنّ قبض المسلم إليه السّابق للعين المجعولة رأس مال السّلم ينوب عن القبض المستحقّ بالعقد، ويقوم مقامه سواء أكانت العين في يده أمانةً أم مضمونةً‏.‏ ولا يحتاج إلى تجديد القبض‏.‏

والثّاني‏:‏ للحنفيّة، وهو أنّه ينوب القبض السّابق لرأس مال السّلم عن القبض المستحقّ في مجلس العقد إذا كانت يد المسلم إليه عليه يد ضمان لا يد أمانة، لأنّه إذا كان القبض البديل مثله القبض المستحقّ أو أقوى منه أمكن أن ينوب عنه‏.‏ أمّا إذا كان في يده أمانةً - كيد الوكيل والوديع والشّريك ونحو ذلك - فإنّ القبض السّابق لا يقوم مقامه، ويحتاج إلى تجديد القبض في المجلس ليصحّ عقد السّلم‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏قبض‏)‏‏.‏

ج - شروط المسلم فيه‏:‏

الشّرط الأوّل‏:‏ أن يكون المسلم فيه ديناً موصوفاً في الذّمّة‏:‏

20 - لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط كون المسلم فيه ديناً موصوفاً في ذمّة المسلم إليه، وأنّه لا يصحّ السّلم إذا جعل المسلم فيه شيئاً معيّناً بذاته، لأنّ ذلك مناقض للغرض المقصود منه، إذ هو موضوع لبيع شيء في الذّمّة بثمن معجّل، ومقتضاه ثبوت المسلم فيه ديناً في ذمّة المسلم إليه، ومحلّه ذمّة المسلم إليه‏.‏

فإذا كان المسلم فيه معيّناً تعلّق حقّ ربّ السّلم بذاته، وكان محلّ الالتزام ذلك الشّيء المعيّن، لا ذمّة المسلم إليه، ومن هنا كان تعيين المسلم فيه مخالفاً لمقتضى العقد‏.‏

وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ هذا التّعيين يجعل السّلم من عقود الغرر، إذ ينشأ عنه غرر عدم القدرة على تنفيذ العقد فلا يدرى، أيتمّ هذا العقد أم ينفسخ، حيث إنّ من المحتمل أن يهلك ذلك الشّيء المعيّن قبل حلول وقت أدائه، فيستحيل تنفيذه‏.‏

والغرر مفسد لعقود المعاوضات الماليّة كما هو معلوم ومقرّر‏.‏ وهذا بخلاف ما لو كان المسلم فيه موصوفاً في الذّمّة، فإنّ الوفاء يكون بأداء أيّة عين تتحقّق فيها الأوصاف المتّفق عليها، ولا يتعذّر تنفيذ العقد لو تلف المسلم فيه قبل تسليمه، إذ يسعه الانتقال عنه إلى غيره من أمثاله‏.‏

وقد رتّب بعض الفقهاء على تضمّن السّلم غرراً إذا عيّن المسلم فيه أيلولة العقد إلى السّلف الّذي يجرّ نفعاً‏.‏ فقال القاضي أبو الوليد بن رشد في المقدّمات الممهّدات‏:‏ ‏"‏ وإنّما لم يجز السّلم في الدّور والأرضين، لأنّ السّلم لا يجوز إلاّ بصفة، ولا بدّ في صفة الدّور والأرضين من ذكر موضعها، وإذا ذكر موضعها تعيّنت، فصار السّلم فيها كمن ابتاع من رجل دار فلان على أن يتخلّصها له منه، وذلك من الغرر الّذي لا يحلّ ولا يجوز، لأنّه لا يدري بكم يتخلّصها منه، وربّما لم يقدر على أن يتخلّصها منه، ومتى لم يقدر على أن يتخلّصها منه ردّ إليه رأس ماله، فصار مرّةً بيعاً ومرّةً سلفاً، وذلك سلف جرّ نفعاً ‏"‏‏.‏

كما بنى بعض الفقهاء منع كون المسلم فيه معيّناً على أساس أنّ السّلم إنّما جاز شرعاً على خلاف القياس للحاجة إليه، فإذ عيّن المسلم فيه، فيمكن عندئذ بيعه في الحال، ولا يكون هناك حاجة إلى السّلم، فينسحب عليه الحكم الأصليّ وهو عدم المشروعيّة‏.‏

ولعلّ المستند النّصّيّ لوجوب كون المسلم فيه ديناً موصوفاً في الذّمّة، وعدم جواز السّلم إذا تعيّن ما روى ابن ماجه بسنده عن عبد اللّه بن سلام قال «جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنّ بني فلان أسلموا لقوم من اليهود وإنّهم قد جاءوا، فأخاف أن يرتدّوا‏.‏ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ من عنده‏؟‏ فقال رجل من اليهود‏:‏ عندي كذا وكذا لشيء قد سمّاه أراه قال ثلاثمائة دينار بسعر كذا وكذا من حائط بني فلان‏.‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ بسعر كذا وكذا، إلى أجل كذا وكذا، وليس من حائط بني فلان»‏.‏

21 - وبناءً على اشتراط كون المسلم فيه دينًا في الذّمّة ذكر الفقهاء أنّ ما يصحّ أن يكون مسلماً فيه من الأموال هو المثليّات كالمكيلات والموزونات والمذروعات والعدديّات المتقاربة، والقيميّات الّتي تقبل الانضباط بالوصف‏.‏

قال الشّيرازيّ في ‏"‏ المهذّب ‏"‏‏:‏ ويجوز السّلم في كلّ مال يجوز بيعه وتضبط صفاته كالأثمان والحبوب والثّمار والثّياب والدّوابّ والأصواف والأشعار والأخشاب والأحجار والطّين والفخّار والحديد والرّصاص والبلّور والزّجاج وغير ذلك من الأموال الّتي تباع وتضبط بالصّفات‏.‏

أمّا ما لا يمكن ضبط صفاته من الأموال فلا يصحّ السّلم فيه، لأنّه يفضي إلى المنازعة والمشاقّة، وعدمها مطلوب شرعاً‏.‏

وعلى هذا فقد نصّ جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على جواز السّلم في النّقود - على أن يكون رأس المال من غيرها لئلاّ يفضي ذلك إلى ربا النَّساء - قال ابن قدامة ‏"‏ لأنّها تثبت في الذّمّة صداقاً، فتثبت سلماً كالعروض، ولأنّه لا ربا بينهما من حيث التّفاضل ولا النّساء، فصحّ إسلام أحدهما في الآخر كالعرض في العرض‏.‏

لقوله صلى الله عليه وسلم «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم» وهي من الموزونات، وبأنّ كلّ ما جاز أن يكون في الذّمّة ثمناً جاز أن يكون مسلماً فيه، ولأنّ ضبطها بالصّفة ممكن بذكر نوع فضّتها أو ذهبها وسكّتها ووزنها‏.‏ فانتفى كلّ مانع، وتوفّر مناط الجواز‏.‏

وخالف في ذلك الحنفيّة وقالوا بعدم جواز كون المسلم فيه نقداً، لأنّ المسلم فيه لا بدّ أن يكون مثمّناً، والنّقود أثمان، فلا تكون مسلماً فيها‏.‏

وقد احتجّ الكاسانيّ على ذلك بأنّه يشترط في المسلم فيه ‏"‏ أن يكون ممّا يتعيّن بالتّعيين ‏"‏ فإن كان ممّا لا يتعيّن بالتّعيين كالدّراهم والدّنانير لا يجوز السّلم فيه، لأنّ المسلم فيه مبيع، لما روينا أنّ «النّبيّ عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخّص في السّلم»، سمّي السّلم بيعاً، فكان المسلم فيه مبيعاً، والمبيع ممّا يتعيّن بالتّعيين، والدّراهم والدّنانير لا تتعيّن في عقود المعاوضات، فلم تكن مبيعةً، فلا يجوز السّلم فيها‏.‏

وجمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة يعدّون المذروعات المتماثلة الآحاد والعدديّات المتقاربة أو المتساوية من جملة المثليّات الّتي تقبل الثّبوت في الذّمّة ديناً في عقد السّلم، ويصحّ كونها مسلماً فيها قياساً على المكيلات والموزونات الّتي نصّ الحديث على جواز السّلم فيها، للعلّة الجامعة بينهما وهي رفع الجهالة بالمقدار، لأنّ القصد من التّقدير هو رفع الجهالة وإمكان التّسليم بلا نزاع، وهذا حاصل بالعدّ والذّرع فيما يقدّر بالوحدات القياسيّة الطّوليّة أو بالعدد كما هو حاصل بالوزن أو بالحجم فيما يقدّر بالوزن أو الكيل‏.‏ قال الخطيب الشّربينيّ‏:‏ فإن قيل‏:‏ لم خصّ في الحديث الكيل والوزن‏؟‏ أجيب بأنّ ذلك لغلبتهما وللتّنبيه على غيرهما‏.‏

الشّرط الثّاني‏:‏ أن يكون المسلم فيه معلوماً‏:‏

22 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يشترط لصحّة السّلم أن يكون المسلم فيه معلوماً مبيّناً بما يرفع الجهالة عنه ويسدّ الأبواب إلى المنازعة بين المتعاقدين عند تسليمه، لأنّه بدل في عقد معاوضة ماليّة، فيشترط فيه أن يكون معلوماً كما هو الشّأن في سائر عقود المبادلات الماليّة‏.‏

ولمّا كان المسلم فيه ثابتاً في الذّمّة غير معيّن بذاته اشترط الفقهاء أن ينصّ في عقد السّلم على جنس المسلم فيه، بأن يبيّن أنّه حنطة أو شعير أو تمر أو زيت‏.‏‏.‏ وعلى نوعه إن كان للجنس الواحد أكثر من نوع، بأن يبيّن أنّ الرّزّ من النّوع الأمريكيّ أو البشاوريّ ونحو ذلك‏.‏ فإن كان للجنس نوع واحد فلا يشترط ذكر النّوع‏.‏

كما اشترطوا بيان قدره لقوله عليه الصلاة والسلام «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم»‏.‏‏.‏ وبيان القدر يتحقّق بكلّ وسيلة ترفع الجهالة عن المقدار الواجب تسليمه، وتضبط الكميّة الثّابتة في الذّمّة دينًا بصورة لا تدع مجالاً للمنازعة عند الوفاء‏.‏

قال ابن قدامة في ‏"‏ المغني ‏"‏‏:‏ ويجب أن يقدّره بمكيال أو أرطال معلومة عند العامّة‏.‏

فإن قدّره بإناء غير معلوم أو صنجة معيّنة غير معلومة لم يصحّ، لأنّه قد يهلك فيتعذّر معرفة قدر المسلم فيه‏.‏ وهذا غرر لا يحتاج إليه العقد‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ‏"‏ أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم منهم أبو حنيفة وأصحابه والشّافعيّ والثّوريّ وأبو ثور على أنّ السّلم في الطّعام لا يجوز بقفيز لا يعلم عياره، ولا في ثوب بذرع فلان، لأنّ المعيار لو تلف أو مات فلان بطل السّلم‏.‏ وإن عيّن مكيال رجل أو ميزانه، وكانا معروفين عند العامّة جاز، ولم يختصّ بهما‏.‏ وإن لم يعرفا لم يجز ‏"‏‏.‏

هذا وإنّ جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة وأحمد في رواية عنه رجّحها كثير من الحنابلة لا يرون بأساً في اتّفاق العاقدين على تحديد المسلم فيه بأيّة وحدة قياسيّة عرفيّة تضبطه، ولو كانت غير المستعملة لتحديده في زمن النّبوّة، لأنّ الغرض معرفة قدره بما ينفي عنه الجهالة والغرر، وإمكان تسليمه من غير تنازع، والعلم بالقدر يمكن حصوله بأيّة وحدة قياسيّة عرفيّة منضبطة، وعلى هذا فلو قدّراه بأيّ قدر جاز، ويفارق بيع الرّبويّات، فإنّ التّماثل فيها في المكيل كيلاً وفي الموزون وزناً شرط، ولا يعلم هذا الشّرط إذا قدّرها بغير مقدارها الأصليّ‏.‏

وخالف في ذلك الحنابلة على المعتمد في مذهبهم، وقالوا‏:‏ لا يصحّ سلم في مكيل وزناً، ولا في موزون كيلاً، لأنّه مبيع يشترط معرفة قدره، فلم يجز بغير ما هو مقدّر به في الأصل، كبيع الرّبويّات بعضها ببعض، ولأنّه قدّره بغير ما هو مقدّر به في الأصل، فلم يجز، كما لو أسلم في مذروع وزناً‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ العبرة بعرف أهل البلد الّذي جرى فيه السّلم، ولا بدّ أن يضبط المسلم فيه بالوحدة القياسيّة الّتي تعارف أهل البلد وقت العقد على تقديره بها، قطعاً للمنازعة بين العاقدين في تقديره عند الوفاء‏.‏

قال الخرشيّ‏:‏ ‏"‏ يشترط في صحّة السّلم أن يكون مضبوطاً بعادة بلد العقد، من كيل فيما يكال كالحنطة، أو وزن كاللّحم ونحوه، أو عدد كالرّمّان والتّفّاح في بعض البلاد ‏"‏‏.‏

وبيان مقدار المسلم فيه بهذه الصّورة إنّما يجري في المثليّات الّتي تخضع أنواعها للوحدات القياسيّة العرفيّة، وهي الوزن أو الحجم أو الطّول أو العدّ‏.‏‏.‏ أمّا إذا كان المسلم فيه من القيميّات الّتي تختلف آحادها وتتفاوت أفرادها بحيث لا تقبل التّقدير بتلك الوحدات القياسيّة، وإن كانت صفاتها قابلةً للانضباط، فعندئذ يجوز السّلم فيها بشرط بيان صفاتها الّتي تتفاوت فيها الرّغبات ويختلف الثّمن بتفاوتها اختلافاً ظاهراً‏.‏

قال ابن رشد الحفيد‏:‏ ‏"‏ وينبغي أن تعلم أنّ التّقدير في السّلم يكون بالوزن فيما يمكن فيه الوزن وبالكيل فيما يمكن فيه الكيل، وبالذّرع فيما يمكن فيه الذّرع، وبالعدد فيما يمكن فيه العدد، وإن لم يكن فيه أحد هذه التّقديرات انضبط بالصّفات المقصودة من الجنس، مع ذكر النّوع إن كان أنواعاً مختلفةً، أو مع تركه إن كان نوعاً واحداً ‏"‏‏.‏

ولا يجب استقصاء كلّ الصّفات، لأنّ ذلك يتعذّر، وقد ينتهي الحال فيها إلى أمر يتعذّر تسليم المسلم فيه‏.‏ إذ يبعد وجود المسلم فيه عند المحلّ بتلك الصّفات كلّها، فيجب الاكتفاء بالأوصاف الظّاهرة الّتي يختلف الثّمن بها غالباً‏.‏

وقد عبّر عن ذلك الخرشيّ بقوله‏:‏ ‏"‏ إن تبيّن أوصاف المسلم فيه الّتي تختلف بها قيمته عند المتبايعين اختلافاً يتغابن النّاس في مثله عادةً ‏"‏‏.‏

ونقل الحطّاب عن صاحب الشّامل ‏"‏ وإن تبيّن صفاته المعلومة لهما ولغيرهما إن كانت قيمة المسلم فيه تختلف بها عادةً أو تختلف الأغراض بسببها ‏"‏‏.‏

الشّرط الثّالث‏:‏ أن يكون المسلم فيه مؤجّلاً‏:‏

23 - اشترط جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة لصحّة السّلم أن يكون المسلم فيه مؤجّلاً فلا يصحّ السّلم الحالّ، وحجّتهم في اشتراط الأجل‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم

«من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» فأمر عليه الصلاة والسلام بالأجل في السّلم، وأمره يقتضي الوجوب، فيكون الأجل من جملة شروط صحّة السّلم، فلا يصحّ بدونه‏.‏

ولأنّ السّلم جوّز رخصةً للرّفق، ولا يحصل الرّفق إلاّ بالأجل، فإذا انتفى الأجل انتفى الرّفق، وذلك لأنّ المسلف يرغب في تقديم الثّمن لاسترخاص المسلم فيه، والمسلم إليه يرغب فيه لموضع النّسيئة، وإذا لم يشترط الأجل زال هذا المعنى‏.‏

قال القاضي عبد الوهّاب‏:‏ ‏"‏ ولأنّ السّلم معناه السّلف، وهو أن يتقدّم رأس المال ويتأخّر المسلم فيه، فوجب منع ما أخرجه من ذلك ‏"‏‏.‏

ولأنّ السّلم الحالّ يفضي إلى المنازعة، لأنّ السّلم بيع المفاليس، فالظّاهر أن يكون المسلم إليه عاجزاً عن تسليم المسلم فيه، وربّ السّلم يطالب بالتّسليم، فيتنازعان على وجه تقع فيه الحاجة إلى الفسخ‏.‏ وفيه إلحاق الضّرر بربّ السّلم، لأنّه سلّم رأس المال إلى المسلم إليه وصرفه في حاجته، فلا يصل إلى المسلم فيه ولا إلى رأس المال، فشرط الأجل حتّى لا يملك المطالبة إلاّ بعد حلول الأجل، وعند ذلك يقدر على التّسليم ظاهراً، فلا يؤدّي إلى المنازعة المفضية إلى الفسخ والإضرار بربّ السّلم‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى جواز السّلم الحالّ كما هو جائز مؤجّلاً، وحجّتهم على صحّة كون المسلم فيه حالّاً، القياس الأولويّ على السّلم المؤجّل، قال الشّيرازيّ‏:‏ ‏"‏ لأنّه إذا جاز مؤجّلًا، فلأن يجوز حالّاً، وهو عن الغرر أبعد، أولى ‏"‏‏.‏ ومرادهم أنّ في الأجل ضرباً من الغرر، إذ ربّما يقدر المسلم إليه على تسليمه في الحالّ، ويعجز عند حلول الأجل‏.‏ فإذا جاز السّلم مؤجّلاً، فهو حالّاً أحرى بالجواز، لأنّه أبعد عن الغرر‏.‏

قال الشّافعيّ في ‏"‏ الأمّ ‏"‏‏:‏ ‏"‏ فإذا أجاز رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيع الطّعام بصفة إلى أجل، كان بيع الطّعام بصفة حالّاً أجوز، لأنّه ليس في البيع معنىً إلاّ أن يكون بصفة مضموناً على صاحبه، فإذا ضمن مؤخّراً ضمن معجّلاً، وكان معجّلاً أضمن منه مؤخّراً، والأعجل أخرج من معنى الغرر، وهو مجامع له في أنّه مضمون له على بائعه بصفة‏.‏

أقلّ مدّة الأجل في السّلم

24 - مع أنّ جمهور الفقهاء - عدا الشّافعيّة - اتّفقوا لصحّة السّلم على وجوب كون المسلم فيه مؤجّلاً، فقد اختلفوا في تحديد الأجل الأدنى الّذي لا يصحّ السّلم بأقلّ منه وذلك على أقوال‏:‏

أ - أمّا الحنفيّة فقد ذكر الكرخيّ أنّ تقدير الأجل إلى العاقدين حتّى لو قدّرا نصف يوم جاز‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ أقلّه ثلاثة أيّام، قياساً على خيار الشّرط‏.‏

وروي عن محمّد أنّه قدّر بالشّهر قال في البدائع وهو الصّحيح، ‏"‏ لأنّ الأجل إنّما شرط في السّلم ترفيهاً وتيسيراً على المسلم إليه، ليتمكّن من الاكتساب في المدّة‏.‏ والشّهر مدّة معتبرة يتمكّن فيها من الاكتساب، فيتحقّق معنى التّرفيه‏.‏ فأمّا ما دونه ففي حدّ القلّة، فكان له حكم الحلول ‏"‏‏.‏

ب - وذهب المالكيّة في المشهور عندهم إلى أنّ أقلّه ما تختلف فيه الأسواق، كالخمسة عشر يوماً ونحوها‏.‏ وهو قول ابن القاسم‏.‏

وروى ابن وهب عن مالك‏:‏ أنّه يجوّز اليومين والثّلاثة، وقال ابن عبد الحكم‏:‏ لا بأس به إلى اليوم الواحد‏.‏

قال الباجيّ - بعد عرض هذه الأقوال - ‏"‏ إذا ثبت ما قلناه، فالّذي قاله القاضي أبو محمّد إنّ تغيّر الأسواق في ذلك لا يختصّ بمدّة من الزّمان، وإنّما هو على حسب عرف البلاد‏.‏ ومن قدّر ذلك بخمسة عشر يوماً أو أكثر، إنّما قدّر على عرف بلده‏.‏ وتقدير ابن القاسم ذلك بخمسة عشر يوماً أو عشرين أظهر، لأنّ هذا عرف البلاد، ومقتضى ما علم من أسواقها، فإنّه يغلب تغيّرها في مثل هذه المدّة ‏"‏‏.‏

ج - وقال الحنابلة‏:‏ من شرط الأجل أن يكون مدّةً لها وقع في الثّمن عادةً، كالشّهر وما قاربه، لأنّ الأجل إنّما اعتبر لتحقيق الرّفق الّذي من أجله شرع السّلم، ولا يحصل ذلك بالمدّة الّتي لا أثر لها في الثّمن‏.‏

الشّرط الرّابع‏:‏ أن يكون الأجل معلوماً‏:‏

25 - اتّفق الفقهاء على أنّ معلوميّة الأجل الّذي يوفّى فيه المسلم فيه شرط لصحّة السّلم، لقوله صلى الله عليه وسلم «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» فقد أوجب معلوميّة الأجل‏.‏

ونصّ الفقهاء على أنّه ‏"‏ إن كان الأجل مجهولاً فالسّلم فاسد، سواء كانت الجهالة متفاحشةً أو متقاربةً، لأنّ كلّ ذلك يفضي إلى المنازعة، ولأنّ جهالة الأجل مفسدة للعقد، كجهالة القدر ‏"‏‏.‏

ويتمّ العلم بالأجل بتقدير مدّته بالأهلّة نحو أوّل شهر رجب أو أوسط محرّم أو يوم معلوم منه، أو بتحديده بالشّهور الشّمسيّة المعروفة عند المسلمين والمشهورة بينهم مثل أوّل شباط وآخر آذار أو يوم معلوم منه‏.‏ أو بتحديد وقت محلّ المسلم فيه، كأن يقال‏:‏ بعد ستّة أشهر أو شهرين أو سنة ونحو ذلك‏.‏

وينظر صور معلوميّة الأجل في مصطلح ‏(‏أجل ف /71 - 80‏)‏‏.‏

الشّرط الخامس‏:‏ أن يكون المسلم فيه مقدور التّسليم عند محلّه‏:‏

26 - ومقتضى هذا الشّرط أن يكون المسلم فيه ممّا يغلب وجوده عند حلول الأجل، وهذا شرط متّفق عليه لصحّة السّلم بين الفقهاء‏.‏ وذلك لأنّ المسلم فيه واجب التّسليم عند الأجل، فلا بدّ أن يكون تسليمه مقدوراً عليه حينذاك، وإلاّ كان من الغرر الممنوع‏.‏

فلا يجوز أن يسلم في ثمر إلى أجل لا يعلم وجود ذلك الثّمر فيه، أو لا يوجد فيه إلاّ نادراً، كما لا يجوز أن يسلم في ثمار نخلة معيّنة أو ثمار بستان بعينه‏.‏

وقال ابن قدامة في ‏"‏ المغني ‏"‏‏:‏ ‏"‏ الشّرط الخامس، وهو كون المسلم فيه عامّ الوجود في محلّه‏.‏ ولا نعلم فيه خلافاً‏.‏ وذلك لأنّه إذا كان كذلك أمكن تسليمه عند الأجل‏.‏ وإذا لم يكن عامّ الوجود، لم يكن موجوداً عند المحلّ بحكم الظّاهر، فلم يمكن تسليمه ‏"‏‏.‏

فلم يصحّ بيعه، كبيع الآبق، بل أولى‏.‏ فإنّ السّلم احتمل فيه أنواع من الغرر للحاجة‏.‏ فلا يحتمل فيه غرر آخر، لئلاّ يكثر الغرر فيه‏.‏

27 - أمّا وجود المسلم فيه عند العقد فليس شرطاً لصحّة السّلم عند جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، فيجوز السّلم في المعدوم وقت العقد وفيما ينقطع من أيدي النّاس قبل حلول الأجل‏.‏

وحجّتهم على ذلك الحديث الّذي رواه الشّيخان عن ابن عبّاس رضي الله عنهما «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، والنّاس يسلفون في الثّمر العام والعامين فقال‏:‏ من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»‏.‏

فلم يشترط عليه الصلاة والسلام وجود السّلم فيه عند العقد، ولو كان شرطاً لذكره ولنهاهم عن السّنتين والثّلاث، لأنّ من المعلوم أنّ الثّمر لا يبقى طول هذه المدّة‏.‏

وأيضاً‏:‏ فإنّ التّسليم قبل حلول الأجل غير مستحقّ، فلا يلزم وجود المسلم فيه، إذ لا فائدة لوجوده حينئذ‏.‏

وخالف في ذلك الحنفيّة والثّوريّ والأوزاعيّ وقالوا بعدم صحّة السّلم إلاّ فيما هو موجود في الأسواق من وقت العقد إلى محلّ الأجل دون انقطاع‏.‏

واستدلّوا على هذا الشّرط‏:‏ بأنّ الأجل يبطل بموت المسلم إليه، ويجب أخذ المسلم فيه من تركته‏.‏ فاشترط لذلك دوام وجود المسلم فيه لتدوم القدرة على تسليمه، إذ لو لم يشترط هذا الشّرط، ومات المسلم إليه قبل أن يحلّ الأجل فربّما يتعذّر تسليم المسلم فيه‏.‏ فيئول ذلك إلى الغرر‏.‏

الشّرط السّادس‏:‏ تعيين مكان الإيفاء‏:‏

28 - اختلف الفقهاء في اشتراط تعيين مكان إيفاء المسلم فيه لصحّة السّلم على أربعة اتّجاهات‏.‏

أ - قال الحنفيّة‏:‏ لا يشترط بيان مكان الإيفاء إذا لم يكن للمسلم فيه حمل ومؤنة، أي‏:‏ لا يحتاج نقله إلى كلفة وسيلة نقل وأجرة حمّال‏.‏

أمّا إذا كان له حمل ومؤنة فقد اختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في اشتراط تعيين مكان الإيفاء‏.‏ فقال أبو حنيفة‏:‏ يشترط بيان مكان إيفاء المسلم فيه، لأنّ التّسليم غير واجب في الحال، فلا يتعيّن مكان العقد موضعاً للتّسليم، فإذا لم يتعيّن بقي مجهولاً جهالةً مفضيةً إلى المنازعة لاختلاف القيم باختلاف الأماكن، فلا بدّ من البيان دفعاً للمنازعة، وصار كجهالة الصّفة‏.‏

وقال أبو يوسف ومحمّد‏:‏ لا يحتاج إلى تعيينه، ويسلّمه في موضع العقد، لأنّ مكانه موضع الالتزام، فيتعيّن لإيفاء ما التزمه في ذمّته، كموضع الاستقراض والاستهلاك وكبيع الحنطة بعينها‏.‏

ب - وقال المالكيّة‏:‏ لا يشترط تعيين مكان الإيفاء ولكنّه يفضّل‏.‏ جاء في القوانين الفقهيّة لابن جزيّ ‏"‏ الأحسن اشتراط مكان الدّفع‏.‏‏.‏‏.‏ فإن لم يعيّنا في العقد مكانًا فمكان العقد، وإن عيّناه تعيّن، ولا يجوز أن يقبضه بغير المكان المعيّن ويأخذ كراء مسافة ما بين المكانين، لأنّهما بمنزلة الأجلين ‏"‏‏.‏

ج - وذهب الشّافعيّة في المعتمد إلى أنّه يشترط لصحّة السّلم بيان مكان تسليم المسلم فيه إذا كان موضع العقد لا يصلح للتّسليم كالصّحراء، أو كان لحمله مؤنة‏.‏

فإن كان العقد بمكان يصلح للتّسليم أو لم يكن لحمل المسلم فيه مؤنة فلا يشترط ذلك، ويتعيّن مكان العقد للتّسليم بدلالة العرف‏.‏ وهذا إذا كان المسلم فيه مؤجّلاً‏.‏

أمّا السّلم الحالّ فلا يشترط فيه تعيين مكان الوفاء، ويتعيّن موضع العقد للتّسليم‏.‏

قالوا‏:‏ ووجه اشتراط تعيينه في المؤجّل إذا كان المكان لا يصلح للتّسليم، اختلاف الأغراض وتفاوتها في الأمكنة، فوجب بيانه كما هو الأمر في الأوصاف‏.‏

وأمّا إذا كان لحمله مؤنة فلأنّه يختلف الثّمن باختلاف المكان الّذي سيسلّم فيه، كالصّفات الّتي يختلف الثّمن باختلافها، بخلاف ما ليس لحمله مؤنة، فإنّه لا يجب بيانه لأنّه لا يختلف ثمنه باختلافها، فلم يجب بيانه كالصّفات الّتي لا يختلف الثّمن باختلافها‏.‏

د - وذهب الحنابلة إلى أنّه لا يشترط ذكر مكان الإيفاء، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يذكره فدلّ على أنّه لا يشترط فيه‏.‏ ولأنّه عقد معاوضة، فلا يشترط فيه ذكر مكان الإيفاء، كبيوع الأعيان، إلاّ أن يكون موضع العقد لا يمكن الوفاء فيه كموضع للعراء وبحر وجبل ونحو ذلك، فعند ذلك يشترط بيانه لتعذّر الوفاء في موضع العقد، فيكون محلّ التّسليم مجهولاً، فاشترط تعيينه بالقول كالأجل‏.‏

الأحكام المترتّبة على السّلم والمتعلّقة به

أ - انتقال الملك في العوضين‏:‏

29 - إذا قبض المسلم إليه رأس المال كان له أن يتصرّف فيه بكلّ التّصرّفات السّائغة شرعاً، لأنّه ملكه وتحت يده‏.‏

أمّا المسلم فيه، فرغم كونه أصبح ديناً للمسلم بمقتضى العقد، إلاّ أنّ ملكيّته له غير مستقرّة قال السّيوطيّ في ‏"‏ الأشباه والنّظائر ‏"‏‏:‏ جميع الدّيون الّتي في الذّمّة بعد لزومها وقبض المقابل لها مستقرّة إلاّ ديناً واحداً، هو دين السّلم، فإنّه وإن كان لازماً فهو غير مستقرّ‏.‏ وإنّما كان غير مستقرّ، لأنّه بصدد أن يطرأ انقطاع المسلم فيه، فينفسخ العقد‏.‏

ب - التّصرّف في دين السّلم قبل قبضه‏:‏

30 - بناءً على كون دين السّلم غير مستقرّ، ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يصحّ بيع المسلم فيه لمن هو في ذمّته أو لغيره أو الاستبدال عنه، لأنّه لا يؤمن فسخ العقد بسبب انقطاع المسلم فيه وامتناع الاعتياض عنه، فكان كالمبيع قبل القبض‏.‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أسلم في شيء، فلا يصرفه في غيره»‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا يقتضي ألاّ يبيع المسلم دين السّلم لا من صاحب ولا من غيره، هذا في البيع أمّا غيره من التّصرّفات ففيها خلاف‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ لا يجوز التّصرّف لربّ السّلم في المسلم فيه قبل قبضه بنحو بيع وشركة ومرابحة تولية، ولو ممّن هو عليه‏.‏

وقال الكاسانيّ‏:‏ لا يجوز استبدال المسلم فيه قبل قبضه، بأن يأخذ ربّ السّلم مكانه من غير جنسه، لما ذكرنا أنّ المسلم فيه وإن كان ديناً فهو مبيع، ولا يجوز بيع المبيع المنقول قبل القبض‏.‏‏.‏ وتجوز الحوالة بالمسلم فيه لوجود ركن الحوالة مع شرائطه، وكذلك الكفالة به‏.‏‏.‏‏.‏ ويجوز الرّهن بالمسلم فيه لأنّه دين حقيقةً، والرّهن بالدّين - أيّ دين كان - جائز‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ والمسلم فيه لا يجوز بيعه ولا الاستبدال عنه، وهل تجوز الحوالة به بأن يحيل المسلم إليه المسلم بحقّه على من له عليه دين قرض أو إتلاف، أو الحوالة عليه، بأن يحيل المسلم من له عليه دين قرض أو إتلاف على المسلم إليه‏؟‏ فيه ثلاثة أوجه، أصحّها‏:‏ لا‏.‏ والثّاني‏:‏ نعم‏.‏ والثّالث‏:‏ لا يجوز عليه ويجوز به‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا يصحّ بيع المسلم فيه قبل قبضه ولو لمن هو في ذمّته‏.‏‏.‏‏.‏ ولا يصحّ أخذ غيره، أي‏:‏ المسلم فيه مكانه‏.‏‏.‏‏.‏ وسواء كان المسلم فيه موجوداً أو معدوماً وسواء كان العوض مثله في القيمة أو أقلّ أو أكثر‏.‏ ولا تصحّ الحوالة به، أي بدين السّلم، لأنّها معاوضة بالمسلم فيه قبل قبضه، فلم تجز كالبيع‏.‏ ولا الحوالة عليه، لأنّها لا تصحّ إلاّ على دين مستقرّ، والسّلم عرضة للفسخ‏.‏

31 - وخالف في ذلك ابن تيميّة وابن قيّم الجوزيّة حيث أجازا بيع المسلم فيه قبل قبضه لمن هو في ذمّته بثمن المثل أو دونه لا أكثر منه حالّاً‏.‏ وهو قول ابن عبّاس رضي الله عنهما ورواية عن أحمد‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ثبت عن ابن عبّاس أنّه قال‏:‏ ‏"‏ إذا أسلفت في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلاّ فخذ عوضًا أنقص منه، ولا تربح مرّتين ‏"‏‏.‏

وحجّتهم على جواز بيعه من المدين أو الاعتياض عنه إذا كان ذلك بسعر المثل أو دونه هو عدم المانع الشّرعيّ، حيث إنّ حديث «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» ضعيف لا تقوم به حجّة‏.‏ وحتّى لو ثبت فمعنى «فلا يصرفه إلى غيره» أي‏:‏ لا يصرفه إلى سلم آخر، أو لا يبعه بمعيّن مؤجّل‏.‏‏.‏ وذلك خارج عن محلّ النّزاع‏.‏

قال ابن القيّم‏:‏ فثبت أنّه لا نصّ في التّحريم ولا إجماع ولا قياس، وأنّ النّصّ والقياس يقتضيان الإباحة‏.‏

أمّا دليلهم على عدم جواز الاعتياض عنه بأكثر من قيمته، فلأنّ دين السّلم مضمون على البائع، ولم ينتقل إلى ضمان المشتري، فلو باعه المشتري من المسلم إليه بزيادة، فقد ربح ربّ السّلم فيما لم يضمن، وقد صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه «نهى عن ربح ما لم يضمن»‏.‏

32 - ونهج المالكيّة في القضيّة مسلكاً وسطاً، إذ أجازوا بيع المسلم فيه لغير المسلم إليه إذا لم يكن طعاماً فقال ابن رشد الحفيد‏:‏ وأمّا بيع السّلم من غير المسلم إليه فيجوز بكلّ شيء يجوز به التّبايع، ما لم يكن طعاماً، لأنّه يدخله بيع الطّعام قبل قبضه‏.‏

أمّا الاعتياض عنه، أو بيعه من المسلم إليه فقد أجازوه بشروط ثلاثة، بيّنها الخرشيّ بقوله‏:‏ يجوز للمسلم إليه أن يقضي السّلم من غير جنس المسلم فيه، سواء حلّ الأجل أم لا بشروط ثلاثة‏:‏ الأوّل‏:‏ أن يكون المسلم فيه ممّا يباع قبل قبضه، كما لو أسلم ثوباً في حيوان، فأخذ عن ذلك الحيوان دراهم، إذ يجوز بيع الحيوان قبل قبضه‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يكون المأخوذ ممّا يباع بالمسلم فيه يداً بيد، كما لو أسلم دراهم في ثوب مثلاً، فأخذ عنه طست نحاس، إذ يجوز بيع الطّست بالثّوب يداً بيد‏.‏

الثّالث‏:‏ أن يكون المأخوذ ممّا يجوز أن يسلم فيه رأس المال‏.‏ كما لو أسلم دراهم في حيوان، فأخذ عن ذلك الحيوان ثوباً، فإنّ ذلك جائز، إذ يجوز أن يسلم الدّراهم في الثّوب‏.‏ قال ابن جزيّ‏:‏ من أسلم في طعام لم يجز له أن يأخذ عنه غير طعام، ولا أن يأخذ طعاماً من جنس آخر، سواء كان ذلك قبل الأجل أو بعده، لأنّه من بيع الطّعام قبل قبضه‏.‏ فإن أسلم في غير طعام جاز أن يأخذ غيره إذا قبّضه الجنس الآخر مكانه‏.‏

فإن تأخّر القبض عن العقد لم يجز لمصيره إلى الدّين بالدّين‏.‏ ويجوز أن يأخذ طعاماً من نوع آخر مع اتّفاق الجنس كزبيب أبيض عن أسود، إلاّ إن كان أحدهما أجود من الآخر أو أدنى، فيجوز بعد الأجل، لأنّه من الرّفق والمسامحة ولا يجوز قبله، لأنّه في الدّون وضع على التّعجيل، وفي الأجود عوض عن الضّمان ‏"‏ وقال بعد ذلك‏:‏ يجوز بيع العوض المسلم فيه قبل قبضه من بائعه بمثل ثمنه أو أقلّ لا أكثر، لأنّه يتّهم في الأكثر بسلف جرّ منفعةً‏.‏ ويجوز بيعه من غير بائعه بالمثل وأقلّ وأكثر يداً بيد، ولا يجوز بالتّأخير للغرر، لأنّه انتقال من ذمّة إلى ذمّة، ولو كان البيع الأوّل نقداً لجاز‏.‏

ج - إيفاء المسلم فيه‏:‏

33 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا حلّ أجل السّلم المتّفق عليه في العقد، وجب على المسلم إليه إيفاء الدّين المسلم فيه‏.‏

فإن جاء به وفق الصّفات المشروطة المبيّنة في العقد وجب على المسلم قبوله ‏"‏ لأنّه أتاه بحقّه في محلّه، فلزمه قبوله، كالمبيع المعيّن، سواء كان عليه في قبضه ضرر أو لم يكن‏.‏ فإن أبى قيل له‏:‏ إمّا أن تقبض حقّك، وإمّا أن تبرّئ منه‏.‏ فإن امتنع قبضه الحاكم من المسلم إليه للمسلم، وبرئت ذمّته منه، لأنّ الحاكم يقوم مقام الممتنع بولايته‏.‏

أمّا قبل حلول الأجل، فلا يخفى أنّه ليس للمسلم مطالبة المسلم إليه بالدّين المسلم فيه‏.‏ ولكن إذا أتى به المسلم إليه قبل الأجل، وامتنع المسلم من قبوله، فهل يجبر على أخذه أم لا‏؟‏ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين‏:‏

أ - قال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إذا أتى به المسلم إليه قبل محلّه، فينظر فيه‏:‏

فإن كان ممّا في قبضه قبل محلّه ضرر - على المسلم - إمّا لكونه ممّا يتغيّر، كالفاكهة، والأطعمة كلّها، أو كان قديمه دون حديثه، كالحبوب ونحوها، لم يلزم المسلم قبوله، لأنّ له غرضاً في تأخيره، بأن يحتاج إلى أكله أو إطعامه في ذلك الوقت‏.‏ وكذلك الحيوان، لأنّه لا يأمن تلفه، ويحتاج إلى الإنفاق عليه إلى ذلك الوقت، وربّما يحتاج إليه في ذلك الوقت دون ما قبله‏.‏ وهذا إن كان ممّا يحتاج في حفظه إلى مؤنة، كالقطن ونحوه، أو كان الوقت مخوفاً يخشى نهب ما يقبضه، فلا يلزمه الأخذ في هذه الأحوال كلّها، لأنّ عليه ضرراً في قبضه، ولم يأت محلّ استحقاقه له، فجرى مجرى نقص صفة فيه‏.‏

وإن كان ممّا لا ضرر في قبضه‏.‏ بأن يكون ممّا لا يتغيّر، كالحديد والرّصاص والنّحاس، فإنّه يستوي قديمه وحديثه، ونحو ذلك الزّيت والعسل، ولا في قبضه ضرر لخوف ولا تحمّل مؤنة، فعليه قبضه، لأنّ غرضه حاصل مع زيادة تعجيل المنفعة، فجرى مجرى زيادة الصّفة وتعجيل الدّين المؤجّل‏.‏

وصرّح الشّافعيّة بأنّه إذا لم يكن للمسلم غرض في الامتناع وكان للمسلم إليه غرض آخر سوى براءة الذّمّة بأن كان بالمسلم فيه رهن أو كفيل أجبر المسلم على القبول على المذهب وإلاّ فقولان أصحّهما يجبر‏.‏

ب - وقال المالكيّة‏:‏ إذا دفع المسلم فيه قبل الأجل، جاز قبوله، ولم يلزم‏.‏ وألزم المتأخّرون قبوله في اليوم واليومين‏.‏

34 - ولو أحضر المسلم إليه الدّين المسلم فيه على الصّفة المشروطة بعد محلّ الأجل‏.‏ فقال الحنابلة‏:‏ يلزمه قبضه، كما لو أحضر البائع المبيع المعيّن بعد تفرّقهما‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ اختلف في ذلك أصحاب مالك، فروي عنه أنّه يلزمه قبضه، مثل أن يسلم في قطائف الشّتاء فيأتي بها في الصّيف، وقال ابن وهب وجماعة‏:‏ لا يلزمه ذلك‏.‏

وقد أوضح ابن رشد الحفيد منشأ الخلاف في المسألة بأنّ من لم يلزمه بقبضه بعد الأجل رأى أنّ المقصود من العروض إنّما كان وقت الأجل لا غيره‏.‏ أمّا من أجاز ذلك وألزمه بقبضه فقد شبّهه بالدّنانير والدّراهم‏.‏

أمّا إذا أتى المسلم إليه بالمسلم فيه في محلّه على غير الصّفة المشروطة في العقد، فينظر‏:‏ فإن أحضره بجنسه ونوعه، ولكن على صفة دون صفته المشروطة جاز للمسلم قبوله، لكنّه لا يلزمه، لأنّ فيه إسقاطاً لحقّه، فلا يجب عليه أخذه‏.‏

وإن أحضره بجنسه ونوعه، وبصفة أجود من الموصوف، لزمه قبوله، لأنّه أتى بما تناوله العقد، وزيادة تابعة له، فينفعه ولا يضرّه، إذ لم يفته غرض‏.‏

وإن أتى بنوع آخر من نفس الجنس، كأن أسلم بتمر خضريّ، فأحضر البرنيّ، أو في ثوب هرويّ، فأتى بمرويّ فعند الشّافعيّة ثلاثة أوجه‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ أصحّها‏:‏ يحرم قبوله‏.‏ والثّاني‏:‏ يجب‏.‏ والثّالث‏:‏ يجوز، قال المحلّيّ لأنّه يشبه الاعتياض عنه أي الاعتياض عن ربويّ بجنسه مع تأخير التّسليم‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا يلزمه قبوله، لأنّ العقد تناول ما وصفناه على الصّفة الّتي شرطاها، وقد فات بعض الصّفات، فإنّ النّوع صفة، وقد فات، فأشبه ما لو فات غيره من الصّفات‏.‏ وقال أبو يعلى‏:‏ يلزمه قبوله، لأنّهما جنس واحد يضمّ أحدهما إلى الآخر في الزّكاة، فأشبه الزّيادة في الصّفة مع اتّفاق النّوع‏.‏

أمّا المعيار الّذي يحتكم إليه في حدّ الصّفة الواجب توفّره في المسلم فيه فقد بيّنه ابن قدامة بقوله‏:‏ وليس له - أي‏:‏ للمسلم - إلاّ أقلّ ما تقع عليه الصّفة، لأنّه إذا أسلم إليه ذلك، فقد سلّم إليه ما تناوله العقد، فبرئت ذمّته منه‏.‏

35 - وحيث وجب على المسلم إليه تسليم الدّين المسلم فيه في مكان معيّن، فإن جاء به فيه لم يكن للمسلم الامتناع عن تسلّمه فيه‏.‏ فإن شاء المسلم إليه أداءه في غيره فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين‏:‏

أ - فقال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة‏:‏ لا يلزم المسلم قبوله بغير محلّه، ولو خفّ حمله، ولا يجوز أن يقبضه بغير المكان المعيّن، ويأخذ كراء مسافة ما بين المكانين لأنّهما بمنزلة الأجلين‏.‏

وقد جاء في البدائع‏:‏ ولو سلّم في غير المكان المشروط، فلربّ السّلم أن يأبى لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «المسلمون على شروطهم»‏.‏ فإن أعطاه على ذلك أجراً، لم يجز له أخذ الأجر عليه، لأنّه لمّا قبض المسلم فيه فقد تعيّن ملكه في المقبوض، فتبيّن أنّه أخذ الأجر على نقل ملكه، فلم يجز، فيردّ الأجر، وله أن يردّ المسلم فيه حتّى يسلّم في المكان المشروط، لأنّ حقّه في التّسليم فيه، ولم يرض ببطلان حقّه إلاّ بعوض، ولم يسلّم له، فبقي حقّه في التّسليم في المكان المشروط‏.‏

ب - وقال الشّافعيّة‏:‏ إذا أتى المسلم إليه بالمسلم فيه في غير مكان التّسليم فامتنع المستحقّ من أخذه، فإن كان لنقله مؤنة، أو كان الموضع مخوفاً، لم يجبر‏.‏ وإلاّ فوجهان بناءً على القولين في التّعجيل قبل المحلّ‏.‏

فلو رضي وأخذه، لم يكن له أن يكلّفه مؤنة النّقل‏.‏ قال النّوويّ‏:‏ قلت‏:‏ أصحّهما إجباره‏.‏

د - تعذّر المسلم فيه عند حلول الأجل‏:‏

36 - إذا انقطع المسلم فيه عند حلول الأجل، بحيث تعذّر على المسلم إليه إيفاؤه للمسلم في وقته، فقد اختلف الفقهاء فيما يترتّب على ذلك من أحكام على ثلاثة مذاهب‏:‏

أ - فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في الأظهر والحنابلة إلى أنّه يخيّر ربّ السّلم بين أن يصبر إلى وجوده، فيطالب به عنده، وبين أن يفسخ السّلم ويرجع برأس ماله إن وجد، أو عوضه إن عدم، لتعذّر ردّه‏.‏ قال صاحب الهداية ‏"‏ لأنّ السّلم قد صحّ، والعجز طارئ على شرف الزّوال، فصار كإباق المبيع قبل القبض ‏"‏‏.‏

وقال ابن رشد الحفيد‏:‏ وحجّتهما أنّ العقد وقع على موصوف في الذّمّة، فهو باق على أصله،وليس من شرط جوازه أن يكون من ثمار هذه السّنة، وإنّما هو شيء شرطه المسلم، فهو في ذلك بالخيار‏.‏

وقد ذكر النّوويّ ضابط الانقطاع بقوله‏:‏ ‏"‏ فإذا لم يوجد المسلم فيه أصلاً، بأن كان ذلك الشّيء ينشأ بتلك البلدة، فأصابته جائحة مستأصلة، فهذا انقطاع حقيقيّ‏.‏ ولو وجد في غير ذلك البلد، لكن يفسد بنقله، أو لم يوجد إلاّ عند قوم امتنعوا من بيعه، فهو انقطاع‏.‏ ولو كانوا يبيعونه بثمن غال، فليس بانقطاع، بل يجب تحصيله‏.‏ ولو أمكن نقله، وجب إن كان قريباً ‏"‏‏.‏

ب - وقال زفر وأشهب والشّافعيّ في قول‏:‏ ينفسخ السّلم ضرورةً، ويستردّ ربّ السّلم رأس المال، ولا يجوز التّأخير‏.‏

قال ابن رشد معلّلاً رأى أشهب‏:‏ وكأنّه رآه من باب الكالئ بالكالئ‏.‏ وقال الشّيرازيّ معلّلاً قول الشّافعيّ هذا‏:‏ ‏"‏ لأنّ المعقود عليه ثمرة هذا العام، وقد هلكت، فانفسخ العقد، كما لو اشترى قفيزاً من صبرة، فهلكت الصّبرة ‏"‏‏.‏ وهي نفس حجّة زفر الّتي حكاها ابن الهمام مبسوطةً أنّ البطلان للعجز عن التّسليم قبل القبض، فصار كما لو هلك المبيع قبل القبض في المبيع المعيّن، فإنّ الشّيء كما لا يثبت في غير محلّه، لا يبقى عند فواته، كما لو اشترى بفلوس، ثمّ كسدت قبل القبض، يبطل العقد، فكذا هنا‏.‏

ج - وقال سحنون‏:‏ ليس لربّ السّلم فسخ السّلم، وإنّما له أن يصبر إلى القابل‏.‏

هـ – الإقالة في السّلم‏:‏

37 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى جواز الإقالة في السّلم‏.‏ فإذا أقاله ربّ السّلم وجب على المسلم إليه ردّ الثّمن إن كان باقياً، أو مثله إن كان مثليّاً، أو قيمته إن كان قيميّاً إذا لم يكن باقياً‏.‏

قال ابن المنذر، أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة‏.‏ ويراجع مصطلح ‏(‏إقالة‏)‏‏.‏

ولو اتّفق العاقدان بعد الإقالة على أن يعطي المسلم إليه ربّ السّلم عوضاً عن رأس المال من الأعيان أو الأثمان فقد اختلف الفقهاء في جواز ذلك على قولين‏:‏

أ - فذهب الحنفيّة ومالك وأصحابه وبعض الحنابلة إلى أنّه لا يجوز ذلك‏.‏

ودليل أبي حنيفة قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره»، ولأنّ هذا مضمون على المسلم إليه بعقد السّلم، فلم يجز التّصرّف فيه قبل قبضه، كما لو كان في يد المشتري‏.‏ وحجّة مالك ‏"‏ أنّ هذه الإقالة ذريعة إلى أن يجوز من ذلك ما لا يجوز‏.‏

ب - وذهب الشّافعيّ والثّوريّ وأبو يعلى من الحنابلة إلى جواز أخذ العوض عن المسلم فيه ‏"‏ لأنّه عوض مستقرّ في الذّمّة، فجاز أخذ العوض عنه، كما لو كان قرضاً‏.‏ ولأنّه مال عاد إليه بفسخ العقد، فجاز أخذ العوض عنه، كالثّمن في البيع إذا فسخ، والمسلم فيه مضمون بالعقد، وهذا مضمون بعد فسخه‏.‏ والخبر أراد به المسلم فيه، فلم يتناول هذا ‏"‏‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ فإن قلنا بهذا، فحكمه حكم ما لو كان قرضاً أو ثمناً في بيوع الأعيان لا يجوز جعله سلماً في شيء آخر، لأنّه يكون بيع دين بدين، ويجوز فيه ما يجوز في القرض وأثمان البياعات إذا فسخت‏.‏

وقال الشّيرازيّ‏:‏ فإن أراد أن يسلمه في شيء آخر، لم يجز، لأنّه بيع دين بدين، وإن أراد أن يشتري به عيناً، نظرت‏:‏ فإن كان تجمعهما علّة واحدة في الرّبا كالدّراهم بالدّنانير والحنطة بالشّعير لم يجز أن يتفرّقا قبل القبض، كما لو أراد أن يبيع أحدهما بالآخر عيناً بعين‏.‏ وإن لم تجمعهما علّة واحدة في الرّبا، كالدّراهم بالحنطة والثّوب بالثّوب ففيه وجهان، أحدهما‏:‏ يجوز أن يتفرّقا من غير قبض، كما يجوز إذا باع أحدهما بالآخر عيناً بعين أن يتفرّقا من غير قبض‏.‏ والثّاني‏:‏ لا يجوز، لأنّ المبيع في الذّمّة، فلا‏:‏ يجوز أن يتفرّقا قبل قبض عوضه، كالمسلم فيه‏.‏

و - توثيق الدّين المسلم فيه‏:‏

38 - لا يخفى أنّ توثيق الدّين المسلم فيه يكون بأحد أمرين‏:‏

أ - إمّا بتأكيد حقّ ربّ السّلم في الدّين المسلم فيه بالكتابة أو الشّهادة، لمنع المسلم إليه من الإنكار وتذكيره عند النّسيان، وللحيلولة، دون ادّعائه أقلّ من الدّين المسلم فيه قدراً أو صفةً، ونحو ذلك‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏توثيق‏)‏‏.‏

ب - وإمّا بالكفالة والرّهن‏.‏ فقد اختلف الفقهاء في توثيق الدّين المسلم فيه بالكفالة على أقوال‏:‏

الأول‏:‏ ذهب الحنفيّة ومالك والشّافعيّ وإسحاق وابن المنذر إلى جواز ذلك‏.‏ وهو رواية عن أحمد ورأي عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والحكم وغيرهم‏.‏

قال الشّافعيّ في الأمّ‏:‏ السّلم السّلف، وبذلك أقول‏:‏ لا بأس فيه بالرّهن والحميل، لأنّه بيع من البيوع، وقد أمر اللّه جلّ ثناؤه بالرّهن، فأقلّ أمره تبارك وتعالى أن يكون إباحةً له، فالسّلم بيع من البيوع‏.‏

الثاني‏:‏ وذهب الحنابلة في المعتمد عندهم إلى أنّه لا يصحّ أخذ رهن ولا كفيل عن المسلم إليه ‏"‏ لأنّ الرّاهن إن أخذ برأس مال السّلم الرّهن والضّمين، فقد أخذ بما ليس بواجب ولا مآله إلى الوجوب، لأنّ ذلك قد ملكه المسلم إليه‏.‏ وإن أخذ بالمسلم فيه فالرّهن إنّما يجوز بشيء يمكن استيفاؤه من ثمن الرّهن، والمسلم فيه لا يمكن استيفاؤه من الرّهن ولا من ذمّة الضّامن‏.‏ ولأنّه لا يأمن هلاك الرّهن في يده بعدوان، فيصير مستوفيًا لحقّه من غير المسلم فيه، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» ولأنّه يقيم ما في ذمّة الضّامن مقام ما في ذمّة المضمون عنه، فيكون في حكم أخذ العوض والبدل عنه، وهذا لا يجوز ‏"‏‏.‏

الثالث‏:‏ وروي عن عليّ وابن عمر وابن عبّاس والحسن وسعيد بن جبير والأوزاعيّ كراهة ذلك‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ ‏"‏ إذا حكمنا بصحّة ضمان السّلم فلصاحب الحقّ مطالبة من شاء منهما، وأيّهما قضاه برئت ذمّتهما منه، فإن سلّم المسلم إليه المسلم فيه إلى الضّامن ليدفعه إلى المسلم جاز وكان وكيلاً‏.‏ وإن قال‏:‏ خذه عن الّذي ضمنت عنّي لم يصحّ، وكان قبضاً فاسداً مضموناً عليه، لأنّه إنّما يستحقّ الأخذ بعد الوفاء، فإن أوصله إلى المسلم برئ بذلك، لأنّه سلّم إليه ما سلّطه المسلم إليه في التّصرّف فيه، وإن أتلفه فعليه ضمانه، لأنّه قبضه على ذلك ‏"‏‏.‏

وأيضاً ‏"‏ إن أخذ رهناً أو ضميناً بالمسلم فيه، ثمّ تقايلا السّلم، أو فسخ العقد لتعذّر المسلم فيه، بطل الرّهن، لزوال الدّين الّذي به الرّهن، وبرئ الضّامن‏.‏

وعلى المسلم إليه ردّ رأس مال السّلم في الحال، ولا يشترط قبضه في المجلس، لأنّه ليس بعوض ‏"‏‏.‏

ز - الاتّفاق على تقسيط المسلم فيه على نجوم‏:‏

39 - إذا أسلم شخص في شيء واحد على أن يقبضه بالتّقسيط في أوقات متفرّقة أجزاءً معلومةً، كسمن يأخذ بعضه في أوّل رجب وبعضه في أوّل رمضان وبعضه في منتصف شوّال مثلاً‏.‏ فقد اختلف الفقهاء في جواز ذلك على ثلاثة أقوال‏:‏

أ - فذهب المالكيّة والشّافعيّة في الأظهر إلى أنّه يصحّ ذلك‏.‏ ‏"‏ لأنّ كلّ ما جاز أن يكون في الذّمّة إلى أجل، جاز أن يكون إلى أجلين وآجال كالأثمان في بيوع الأعيان ‏"‏‏.‏

ب - وذهب الشّافعيّ في قول ثان له إلى أنّه لا يصحّ ذلك ‏"‏ لأنّ ما يقابل أبعدهما أجلاً أقلّ ممّا يقابل الآخر، وذلك مجهول، فلم يجز ‏"‏‏.‏

ج - وذهب الحنابلة في المعتمد عندهم إلى التّفصيل حيث قالوا‏:‏ ‏"‏ يصحّ أن يسلم في جنس واحد إلى أجلين، كسمن يأخذ بعضه في رجب، وبعضه في رمضان، لأنّ كلّ بيع جاز إلى أجل جاز إلى أجلين وآجال إن بيّن قسط كلّ أجل وثمنه، لأنّ الأجل الأبعد له زيادة وقع على الأقرب، فما يقابله أقلّ‏.‏ فاعتبر معرفة قسطه وثمنه‏.‏ فإن لم يبيّنهما لم يصحّ‏.‏

ويصحّ أن يسلم في شيء كلحم وخبز وعسل يأخذه كلّ يوم جزءاً معلوماً مطلقاً، أي سواء بيّن ثمن كلّ قسط أو لا، لدعاء الحاجة إليه ‏"‏‏.‏

فإن قبض البعض ممّا أسلم فيه ليأخذ منه كلّ يوم قدراً معلوماً، وتعذّر قبض الباقي، رجع بقسطه من الثّمن، ولا يجعل الباقي فضلاً على المقبوض، لأنّه مبيع واحد متماثل الأجزاء، فقسط الثّمن على أجزائه بالسّويّة‏.‏ كما لو اتّحد أجله‏.‏